![]() |
قراءة في عينية أبي ذؤيب الهذلي .
قراءة في القصيدة العينية لأبي ذؤيب الهذلي أبو ذؤيب الهذلي شاعر مخضرم بين الجاهلية والإسلام . له قصيدة عينية طويلة تبلغ تسعة وستين بيتا . مطلعها :( أَمِنَ المنونِ وريبها تتوجّعُ + والدهرُ ليس بمعتب من يجزعُ ) تستمد القصيدة قوة وجمالا من كونها تعبّر عن موقف جليل ؛ فقد مات لأبي ذؤيب خمسة أولاد وقيل سبعة في عام واحد بالطاعون ! فأي خطب هذا ، وأي موقف ! إنه محنة تتفجر معها الطاقات الانفعالية ، وتجود قرائح الشعراء بالنفيس . ولا سيما إذا كان الشاعر نفسه هو صاحب الرزية .إن أجود الشعر ما كان نتاج معاناة وتجربة إنسانية . وإلا فكيف يرسم الشاعر الصور الجميلة ، ويصوغ التعبير الصادق الذي يفسر الحياة ، في نغم مؤثر ؟! في كتاب ( الشعر والشعراء ) ذكر ابن قتيبة منها البيت : ( والنفس راغبة إذا رغَّبتها + وإذا تُردُّ إلى قليل تقنع ُ ) ضمن قسم ( ما حسن لفظه وجاد معناه ).وقال:هذا أبدع بيت قالته العرب.القصيدة بشكل عام جيدة المبنى والمعنى . لم يفتتح الشاعر قصيدته بالمطلع التقليدي ( الغزل والنسيب ) ؛ بل بمناجاة ذاتية دامعة ، فيها تساؤل ( أمن المنون وريبها تتوجع ؟ ) هذا هو تساؤل الحائر العاجز عن الجواب ، والذي لا يريد لتساؤله من أحد أي جواب . إن عينه لتدمع ..وإن قلبه ليخشع ..وإنه على فراق فلذات أكباده لمحزون . ولكنه يدرك جيدا أن ( الدهر ) لا يُعتب الجازعين . ثم يدور حوار بينه وبين زوجه : تسأله عن شحوبه ، وقلة راحته ونومه ، فيجيبها بأبيات رائعة من مثل قوله : ( أَوْدى بَنيَّ وأعقبوني غُصّةً + بعد الرقاد وعَبرةً لا تُقلِعُ )ويتابع بيان حاله بعدهم ، بمثل قوله : ( فالعَينُ بَعدَهُمو كأنّ حِداقَها + سُملتْ بشوكٍ فهْي عُورٌ تَدْمعُ ) والبيتان صورتان جميلتان : فعَينا الشاعر بعد فقد أولاده لم تكفّا عن البكاء حتى كأن بكاءهما الشديد ناتج عن سملهما بالشوك . ونلاحظ هنا مدى الدقة في اختيار الألفاظ : فالسمل عن عمد ، و( الشوك ) اسم جنس ، يحمل معنى الكثرة ؛ وكأن شوكة واحدة لا تكفي!( حتى كأنيَ للحوادث مروةٌ + بصَفا المُشَرَّق كلَّ يومٍ تُقْرعُ ) وحسُنَ الإيغال في قوله ( فهي عورٌ تَدْمَعُ ) لبيان أثر السمل . ولهذا فقد غدا الشاعر من ذله وانكساره كحجر في الأرض يقرعه الرائحون والغادون بأقدامهم . إنها حقا صورة عجيبة ، فيها تناسق تام مع المعنى المراد : - فقوله ( مروة بصفا المشرق ) أدى معانيَ عدة في انسجام مذهل : فالمروة : صغيرة حقيرة ، ذليلة تحت الأقدام ، حارة من قرعها ولفح الشمس . وكل ذلك يناسب معنى ذل الشاعر ، وتضاؤله ، وحرارة قلبه . وتبقى المروة مع ذلك جسما صلبا ، فهذا يدل على ما تبقى في نفسه من جلَد . وهذا يعاضد قوله : ( وتَجلّدي للشامتين أريهمو + أني لريب الدهر لا أتضعضعُ ). لا نملك إلا أن نقف احتراما أمام تلكما الصورتين .بعد ذلك يقدم الشاعر حِكَما ليست في ضروب عدة في الحياة ؛ كما هو شأن الحكم في معلقة زهير ؛ بل إنها حكم الموقف ، موقف الموت . ومن تلك الحكم : 1- ( وإذا المَنيّة أنشبتْ أظفارَها + ألفيتَ كل تميمةٍ لا تَنفعُ ) المنية وحش مفترس هائج ! لا تجدي معه الرُّقى !2- ( والنفس راغبة إذا رغَّبْتَها + وإذا تُردُّ إلى قليل تقنع ) حكمة فيها تَعقُّل وتَجَلُّد ، ومحاولة للرضا بما كان .ثم يبدأ حكمه ( الدهرية ) التي هي وسيلة من وسائل التعزية : 3- ( والدهر لا يبقى على حدثانه + في رأس شاهقةٍ أعزُّ مُمَنَّعُ ) وكأن الشاعر جعل هذا البيت عنوانا للقصص الوعظية الثلاث التي سيسردها على سبيل الحكمة في الحياة والموت .يبدأ القصة الأولى بقوله : ( والدهر لا يَبقى على حدَثانهِ + جَونُ السَّراة له جدائدُ أربع ) جون السرة : أي َأسْوَدُ أعلى الظهر . الجدائد : جمع جدّاء ، وهي الأتان مقطوعة الأذنين .يصف حمار الوحش ؛ يعيش في دعة مع أتنه الأربع في مكان خصيب ...حتى جاءهن صياد أنهى سعادتهن على نحو مريع ! يقول : ( فرمى فألحَقَ صاعديّا مِطْحرا + بالكشح فاشتملتْ عليه الأضلع ) الصاعدي المطحر : السهم السريع . أبدهن : قسم الحصص بينهن .( فأَبَدَّهنَّ حُتوفَهنّ فَهارِبٌ + بذَمائه أو بارِكٌ مُتَجَعْجِعُ ) ( يَعْثُرْنَ في حدِّ الظبات كأنما + كُسِيَتْ بُرودَ بَني يزيدَ الأذرعُ ) نلاحظ أن عدد الحُمُر مساوٍ لعدد أولاد الشاعر ، مما يرجح أنهم خمسة لا سبعة . والشبه واضح بين عذابهم في موتهم بالطاعون ، وعذاب الحمر بسهام الصياد ( الذي يمثل المنية ) بعدما كانت تعيش في رغد . ونلاحظ أن عدد الأتن أربع ، والذكر واحد فقط ، وأن اللام في لفظة ( له ) معناها الملكية ....ولهذا تفسيره النفسي والاجتماعي طبعا . ثم يبدأ القصة الثانية بقوله : ( والدهر لا يبقى على حدثانه + شَبَبٌ أَفَزَّتْهُ الكلابُ مُرَوَّعُ ) الشبب : الثور المسنّ .كانت الحمر في القصة السابقة صغيرة السن كأبنائه . أما هذا الثور فهو مسن كالشاعر ، يرهف سمعه ليتقي الأذى : ( يرمي بعينيه الغيوب وطرفه + مُغْضٍ ، يصدِّق طرفُه ما يَسْمَعُ ) إنه لكبر سنه يعتمد على السمع بالدرجة الأولى ، ويصدق بصرُه سمعَه .وإذا بالكلاب ( محن الزمان السابقة ) تهاجمه ، وتدور معركة طاحنة ، ينتصر فيها الثور ( الشاعر ) ، ويجندل الكلابَ بقرنيه ، فيبدو للثور ربُّ الكلاب ( المحنة الكبرى ) فيرميه بسهم نافذ !. ويجود علينا الشاعر بقصة ثالثة : ( والدهر لا يبقى على حدثانه + مستشعِرٌ حلقَ الحديد مقنَّعُ ) .إنها قصة فارس شجاع لا يسأم الحرب،ولا ينفكُّ يلبس الدرع حتى : ( حَمِيَتْ عليه الدرعُ حتى وجْهُهُ + مِن حرِّها يوم الكريهة أَسْفَعُ ) وكان عنده فرس يدللها حتى إنه :( قَصَرَ الصَّبوح َلها،فشرَّجَ لحمَها + بالنَّيِّ فهي تَثوخ فيها الإصبع ) هنا فقط نرى الشاعر قد أساء التصرف في وصف الفرس بكثرة الشحم ولين اللحم . وقد عاب عليه الأصمعي ذلك ، لأن لحم الخيل يوصف عادة بالصلابة ليتحمل العدو ومشاق الحرب .ولكنه لا يعدو أن يكون بيتا واحدا لا يؤثر على قصيدة عصماء كهذه وإنما أراد الشاعر أن يقول : إن لدى هذا الفارس فرسا يعتني بها. ونعود فنكمل القصة : إذ يلتقي الفارس بالفارس ، ونرى أمامناالآن مسرحية حية توضح لقاءهما وتحديَ كلٍ منهما للآخر: ( فتَنادَيا وتواقفتْ خَيْلاهما + وكلاهما بطلُ اللقاءِ مُخَدَّع ُ ) والفارسان متسلحان :( وكلاهما متوشِّحٌ ذا رونقٍ + عَضْبا إذا مَسَّ الضريبةَ يَقْطع ) وبعد أن يعتد كل منهما بمجده يتبارزان، ويطعن كل منهما خصمه :( فتَخالَسا نَفْسَيهما بنوافذٍ + كنوافذِ العُبُطِ التي لا تُرْقَعُ ) ( فتخالسا ) ! لفظة عجيبة لها مدلول معنوي وصوتي عجيب في تصوير تبادل الضربات برشاقة وسرعة ومهارة. وجاءت كلمة ( نوافذ ) بصيغة الجمع النكرة لتعمق معنى كثرة الضربات ، وتوضح قوتها ، وبين الشاعر أن هذه الضربات مميتة لا شفاء منها كالشقوق التي اتسعَ خرقها على الراقع ! ثم يختم الشاعر قصيدته النفيسة بقوله في الفارسين : ( وكلاهما قد عاش عيشةَ ماجدٍ + وجنى العلاءَ لوَانَّ شيئا ينفع ) نعم ليس ثمة ما يجدي بعد المنية نفعا ...اللهم إلا الأعمال الصالحة والآثار الخالدة .كذا فعل أبو ذؤيب : ساءل نفسه في المنون حائرا ، وأبان الكارثة التي أصابته ، وأبدى أحزانه ، وانبجست من روحه حكم في الموت صادقة ، استحضرها الموقف الإنساني والمعاناة الشخصية ، فخرجت في صور بديعة من البيئة التي عاشها الشاعر . والحكمة هي خلاصة التجارب الإنسانية ، تعطي المعنى في دقة وإيجاز ... ولكن الشاعر في محنته الأليمة لا يكتفي بكلام موجز ، وليس من الخير له ولا للعمل الفني أن يوجز . ولذلك أتى بحكمة موجزة في بيت ، ثم ضرب لها الأمثلة القصصية من بيئته . وقد رأينا كيف أن الشاعر بدأ كل قصة من تلك القصص بقوله : ( والدهر لا يبقى على حدثانه ) . وهذا تكرار موفق أبرز شعوره ، وأعطى تنظيما تقسيميا في القصيدة . وبالرغم من طول القصيدة رأينا أنها ذات وحدة موضوعية متماسكة ومعان عميقة ، وصور بديعة ...سَرَت في نفوسنا بانسيابية . وكان للبحر الكامل الهدار تأثيره الداعم للمعاني . كما كانت القافية بروي العين المضمومة كأنها صوت البكاء ، إنها عينٌ باكية !! ومهما قلنا في القصيدة ، فلا شيء يغني عن الرجوع إلى الديوان لقراءتها كاملة . فارجع إلى ديوان الهذليين الجزء الأول ص 1- 21 . واستمتع من جديد . كتبه :: أحمد عبد الكريم زنبركجي . |
رد: قراءة في عينية أبي ذؤيب الهذلي .
تحليل جميل أيها الأمير
وقراءة شيقة لقصيدة من عيون الشعر العربي بورك فيك على هذه الهدية وتمت الموافقة على الموضوع اقتباس:
نجد الكاتب هنا يتبع من سبقوه حذو القذة بالقذة مع أن أبا ذؤيب أراد معنى آخر ولي بحث حول هذا سأعرضه في حينه إن شاء الله |
الساعة الآن 07:36 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
الحقوق محفوظة لشبكة هذيل