مشاركة: بدايات الرجز
تابع
ومن كناياتهم في القرن الخامس الهجري قولهم : ( سترك الله بستره ) أي قتلك بحائط ينقض عليك ، وقولهم : ( بالع القراح ) للبطيخ ، و( رفسة العيد ) للنخمة ، وقولهم للجائع : ( صاحت عصافير بطنه ) وللمتطفل ( ذباب ) وللسوق الكاسدة ( سوق كسوق الجنة ) لأنها لا بيع فيها ، وللكبريت : ( الحقير النافع ) وللثوم ( عنبر القدور ) وهكذا (23) .
وأما الأمثال فهي حكمة الشعب مضغوطة في جمل قصيرة ، وكأنها حبوب الدواء ، وتبدو شعبيتها واضحة من اتصالها بالحياة اليومية والتفصيلات التي لا يعنى بها ( الأدب الرفيع ) بوصف شيخنا الدكتور على الوردي ، الذي يباعد هذه الموضوعات ويأنف من طرقها ، وربما استمدوها من أرجازهم المشهورة .
فمن هذه الأمثال الشعبية ، المماسة للحياة قولهم :
( الصيف ضيعت اللبن ، إلى أمة يلهف ( يتوجه ) اللهفان ) وقولهم ( مر مبكياتك لا أمر مضحكاتك ) وقولهم ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) وقولهم ( أبي يغزو وأمي تحدث ) وقولهم ( أحد حماريك فار جرى ) وقولهم ( البياض نصف الحسن ) وقولهم ( تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ) وقولهم ( ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة ) وقولهم (وحمى ولا حبل ) وقولهم ( إن كنت حبلى فلدى غلاماً ) ، وقولهم ( يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام ) وكلها تتصل بالنساء (24) .
وقالوا في الموضوعات الشعبية أمثالاً على شرطنا بعضها هنا :
فقد قالوا ( أتاك ريان بلبنه ) وقالوا ( انه يعلم من أين تؤكل الكتف ) وقالوا ( إن كنت في قوم فاحلب في إنائهم ) وقالوا ( اتخذوني حمار الحاجات ) وقالوا ( جعجعة ولا أري طحناً ) وقالوا ( أحشفاً وسوء كيلة ) وقالوا ( رب زارع لنفسه حاصد سواه ) وقالوا ( الشعير يؤكل ويذم ) وقالوا ( لكل ساقطة لاقطة ) وقالوا ( لم يجد لمسحاته طيناً ) وقالوا ( ما كل بيضاء شحمة ) وقالوا ( مع المخض يبدو اللبن ) ، وتدور على الزراعة وعملها والأطعمة . (25) .
وقالوا :
( رب نعل شر من الحفاء )
وقالوا : ( سمن كلبك يأكلك ) وقالوا ( سرق السارق فانتحر ) وقالوا ( صنعة من طب لمن حب ) وقالوا ( كل كلب بحيه نباح ) .
وقولهم : ( كلي طعام السرق ونامي ) وقالوا ( ما النار في الفتيلة بأحرق من التعادي للقبيلة )
وقالوا : ( من يكن أبوه حذاء تجد نعلاه ) وقالوا ( الهوى هوان ) وقالوا (من الرفش إلى العرش ) (26)
وكلها معان متخذة من واقع الحياة الشعبية التي يمارسها الفقراء والزراع والصناع والرعاة ومن إليهم .
وسال سيل الأمثال في العهود كلها ، فعلاوة على ما ذكرناه من قديمها ، وضع الميداني أمثال المولدين في فقرات تتلو الأمثال القديمة على ترتيب الحروف ، وهي إرث الشعب أيضاً ، وتبين من استعراضها مدى التقدم العقلي والحضاري الذي زرعه الإسلام في نفوس معتنقيه ، ومدى الحكمة التي إستفادوها من تجاربهم مع الدول والحكومات والشؤون والمصالح فكأنهم كانوا يؤرخون لمجتمعاتهم وفلسفاتهم في الحياة ، فمن أمثال المولدين قولهم :
( إن للحيطان آذاناً إنما السلطان سوق أن استوى فاكين وإن اعوج فمنجل إذا تخاصم اللصان ظهر المسروق إنما يخدع الصبيان بالزبيب إلى كم سكباج أي طعام لا يصلح للغرثان أي عشق باختيار ؟ - التدبير نصف المعيشة اتق مجانيق الضعفاء ( أي دعواتهم ) الجهل موت الأحياء حسن طلب الحاجة نصل العلم أجرأ الناس على الأسد أكثرهم له رؤية الحياء يمنع الرزق الحاوي لا ينجو من الحيات سوء الخلق يعدي السلطان يعلم ولا يعلم صديق الوالد عم الولد الصناعة في الكف أمان من الفقر الطير بالطير يصطاد الطبل تعود اللطام العفة جيش لا يهزم الغرباء برد الآفاق قل النادرة ولو على الوالده في بعض القلوب عيون من سل سيف البغي قتل به من هانت عليه نفسه فهي على غيره أهون المرأة السوء غل من حديد يوم السفر نصف السفر ) (27) وغيرها مما يشق علينا أن نترك لعمقه وفائدته وحلاوته .
وما كان للأمثال أن تتوقف مع تجدد التجارب وتعدد الأحداث وهو أدب شعبي لا شك فيه ، إذ هو سجل لحياة الناس كلهم .
وجاء الإسلام ليضيف أشكالاً جديدة إلى الأدب الشعبي وهو أدب الجماهير أو شعر الرأي العام أو شعر المظاهرات إن صح التعبير وذلك عند وقوع فضيحة أو نزول مستغرب يثير الحفيظة ويحرك النفوس .
فمن ذلك أن امرأة رجمت في أواخر القرن الثاني الهجري بتهمة الزنى ، فجعل الصبيان يتكلمون بذلك ويقولون في طرقهم وأقنيتهم :
يا حميد الحمدية لم زنيت يا شقية ؟
لبثت حولاً كريتاً في حجال السندسية (28)
وتكررت مثل هذه الفورة الجماهيرية بعد إخماد ثورة الزنج سنة 270هـ / 883م ، فأدخل رأس بهبوذ الثائر بغداد والناس تردد ، ناسبة الفضل في ذلك إلى القائد لؤلؤ المصري الذي هرب من سلطة أحمد بن طولون (29) وانضم إلى جيش العباسي المحارب ..
فقالت :
ما شئتم قولو كان الفتح للولو (30)
وفي سنة 307هـ / 919 920م ، لما كثر العيارون في بغداد وعين نجح الطولوني للقضاء على فسادهم كان العيارون يتظاهرون ويشجع بعضهم بعضاً على المضي في العصيان والسرقة ، وكانوا يعبرون عن تصميمهم هذا بقولهم :
أخرج ولا تبالي مادام نجح والي (31)
وفي سنة 565هـ/1069م ، قايض عماد الدين زنكي القائد ( ت594هـ/1197م) بسنجار قلعة حلب ونصيبين (32) ، فثارت ثائرة الحلبيين لهذه القسمة الضيزي ، في رأيهم ، و( عمل عوام حلب أشعاراً عامية كانوا يدقون بها على طبيلاتهم ، منها :
أحباب قلبي ، لا تلوموني هذا عماد الدين مجنوني
قايض بنسجار قلعة حلب وزاده المولى نصيبين (32)
والمفهوم أن المأخوذة سنجار والمتروكة قلعتا حلب ونصيبين ليستقر المعنى واللغة معاً إذا الباء علامة المتروك كما تقضي قواعد اللغة العربية .
وفي سنة 605 هـ / 1208م ، دخل مملوك مسيحي مقصورة لخطبة الجمعة وهو سكران وبيده سيف مشهور قتل به جماعة ، ونال الضرب المنبر أيضاً ، فقيل في الواقعة :
مقصورة الخطيب طلب والناس ولوا الهرب
في جانب المنبر ضرب بالسيف حتى انكسر (33)
وفي الجعبة أمثلة أخرى يطول بها المدى وتتبدد مادة لها موضع وأوان غير هذين ، وفيما ذكرنا غنية .
المصدر : المأثورات الشعبية
|