لقد كان الشاعر الصعلوك ينشد الحرية ويرفض السيطرة مهما كان نوعها ، ولو أدى به ذلك في بعض الأحيان إلى فراق القبيلة ،
والتوجه غالى حيث الانطلاق والرحابة والآفاق الشاسعة وراء الكثبان ، وفق الهضاب والجبال ،
وعبر الأودية ، يأنس الخلاء ويصيخ بسمعه لأنفاس الوجود ، وأصوات الحيوانات المتوحشة عله يجد الجواب لمعاناته ولأسئلته أثناء اختراقه للمجهول.
لقد رأينا الشنفرى يقول مفضلا الذئاب والنمور والوحوش على مجتمعه وقومه.
ولي دونكم أهلون سيد عملس = = وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
هم الأهل لا مستودع السر ذائع = = لديهم ولا الجاني بما جر يخذل
نفس المسلك سلكه شعراء هذيل الصعاليك في صورة الفرار فاستبدلوا ثقافة وقيم القبيلة بالطبيعة ،
واستعاضوا عن رموز هذه الثقافة باصطحاب الحيوان والسلاح، وفي هذه الرحلة الجديدة حل محل التجمع القبلي والأطلال والمرأة وبقر الوحش وغيرها،
من الاستئناس بالوحوش والارتباط بالقوس والسهام، والأماكن المرتفعة .
كانت الحرب في حياة العرب ضرورة فرضتها الظروف الاقتصادية وطبيعة العلاقات القبلية المبنية على العصبية،
فقد ( كانوا بغريزتهم يحملون لها من الكره قدر ما يحملون من الشجاعة في مواجهتها )
وحينما تذكر الحرب تذكر أدواتها من قسي ونبال وسيوف،
وقد ألف شعراء هذيل الصعاليك هذه العناصر التي تشكل جزءا لا يتجزأ من وجودهم فوصفوها وصفا دقيقا،
وكانت هذه العناصر كائنات حية يدفنون من خلالها معاناتهم النفسية والعاطفية، وقد يربط الشاعر منهم بين حب المرأة وتعلقه بسلاحه،
فتتحد مشاعره في إحساس واحد، يختزل صورة المرأة في عناصر الحرب التي تعتبر بالنسبة له أساس وجوده ،
وهكذا تتحد المحبوبة بالقوس والسيف وتتغير دلالة الأشياء عند الشاعر، فلم يعد( يرى شيئين بل يرى شيئا واحدا وقد أصبح هذا الآخر )
والكل يعبر عن توق الشاعر إلى الحياة الكريمة ...،
من هنا كانت وسائل الحرب وعلاقة الشعار بها تعويضا عن الفراغ الذي يحس به في نفسه بعد فراقه للعالم الذي كان يألفه،
وتقف المرأة على رأسه ولذلك راح المتنخل يقول:
وآسل عن الحب بمضلوعة = تابعها الباري ولم يعجـل
كالوقف لا وقر بها هزمها = بالشرع كالخشرم ذي الأزمل
من قلب بنع وبمنحوصة = = = = بيض ولين ذكر مقصل
منتخب اللب له ضربة = = = = خذباء كالعط من الخذعل
أفلطها الليل بعير فتسـ = = = ـعى ثوبها مجتنب المعدل
يتجول الشاعر بين محبوبته التي يؤلمه فراقها وبين سلاحه ،
فمحبوبته قريبة من قلبه قرب القوس التي يضعها على كتفه
وهي من الحسن بمكان، فقد أحسن بريها، وهي كالخلخال، إلا انه ليس فيها ثقب للدلالة على تفضيله لها، و( الخلخال ) هنا هو الرابط بين الصورتين , المرأة والقوس،
ولقوسه صوت إذا تحرك وترها كصوت النحل، وبالإضافة إلى القوس هناك النبل المرهفة النصال والسيف القاطع،
سيف له ضربة تشق اللحم شقا، فيترك فيه جرحا كجرح المرأة الحمقاء التي لا تأبه به ولا تداويه
وقد انشغلت بقدوم عير تنتظرها بفارغ الصبر، فتسعى مسرعة نحوها، فتجنب الطريق فيعلق ثوبها بشجرة فيتقطع جزء منه.
لنلاحظ كيف كانت القوس بديلا عن الحب وكيف راح بعد ذالك يتتبع تفاصيلها فهي كالوقف( أي الخلخال ).
وهكذا رغم اندفاعه إلى الأمام فارا من ماضيه إلا أن الخلخال وهو عنصر من الماضي ما زال يلاحقه في هذا التشبيه الذي شبه القوس به.
وهذه القوس رغم أنها خالية من العيوب( لا وقربها ) وهذا ما يوحي بأفضليتها إلا أن صوتها ضجيج كصوت النحل ناتج
عن هذا الصوت الداخلي وهو الصراع الذي يجده الشاعر بداخله.
ومن تصويره للسيف نشعر بفرار الشاعر وحسمه لأمره في عدم التلفت الى الخلف.فهو( مقصل وقاطع ) وبذلك يشير إلى الحزم،
و( منتخب اللب) وله للدلالة على فراغ ذهنه من مناقشة الأمر و( له ضربة كالشق) للدلالة على حسم أمره
ولننظر بعد هذا إلى تشبيه ضربة السيف بالجرح والشق في المرأة الحمقاء
وكأني به مازال مرتبطا في أعماقه بالماضي، أي بالقبيلة وعلى رأسها المرأة كرابط عاطفي
وحركة المرأة وصفتها تعبير آخر عن هذا الصراع وهذا التمزق الذي يكابده الشاعر في رحلته بين الماضي والمستقبل.
فالمرأة ( خذعل ) أي حمقاء، وقد يعود هذا الوصف أيضا على الشاعر لان حركة المرأة وهي تتلهف مسرعة نحو العير المحملة بكل أنواع السلع
والتي ظهرت لها فجأة تعبير عن شدة الإقدام والاندفاع ،ولكن إقدامها هذا يدل على حماقاتها، فجرحها يدمي وهي تتناساه ولكن إلى متى؟.
ألا نرى في هذه الصورة تعبيرا صادقا عن حياة الشاعر والصراع الذي يحس به؟ ألا يكون فراقه لأهله جرحا داميا في صدره يحاول أن يتناساه؟
ثم ما هذه العير التي استولى ظهورها على عقل المرأة وأفقدها صوابها فجأة ؟
أليست سوى هذه الأحلام التي يرحل الشاعر نحوها ويتناسى في سبيلها كل آلامه.
انها حركة سريعة تمر أجزاء الصورة فيها الواحدة تلو الأخرى معبرة عن بحث الشاعر عن بديل لحياة قديمة في رحلة جديدة .
وسلاح الصعلوك وسيلة من وسائل التحرر عنده فهو لا يريد أن يكون عبدا لخوفه من أعدائه،
كما انه لا يقبل الظلم من واحد،
ولهذا يقول صخر الغي مصورا ترسه وسيفه الأبيض الرقيم اللامع القاطع، وكذلك قوسه
الصفراء الهتوف ، وهما سلاحه الذي لن يفرط فيه.
وصارم أخلصت خشيبته = == أبيض ... في متنه ربـد
فليت عنه سيوف أريح حتـ = ى باء بكفي ولم أكد أجـد
فهو حسام تتر ضربته ســا = ق المذكي فعظمها قصـد
وسمحة من قسي زارة صفرا = = ء هتوف عدادها غـرد
ذلك بزي فلن أفرطه = = = أخاف أن ينجزوا الذي وعدوا
فلست عبدا لموعدي ولا = = = أقبل ضيما يأتي به أحـد
ولننظر كيف يرفض في البيت الأخير العبودية و الظلم ( فلست عبدا ) ،( ولا أقبل ضيما )
وبسبب هذا الرفض للسيطرة والظلم راح الصعلوك في هذيل يبحث عن حريته فارا إلى حيث الانطلاق والرحابة
والفرار إلى عالم جديد ، يمر عبر طريق صعب ، ينتهي بوجود الماء
رمز للحياة الجديدة ، وقد ينتهي إلى الجبال حيث ذلك المرتفع السامق الذي يتطلع إليه الشاعر.
إن ورود الماء البعيد في الأماكن الخالية إلا من السباع عند الشاعر المنتحل , مظهر قوة نفسية وشجاعة كبيرة
يبات بقرب المورد يزجر الذئاب وكأنه في معركة حقيقية ، ويزيد من شعوره بها أصوات البعوض المتداخلة
فالحالة النفسية التي يعيشها تلقي بظلالها على المحيط من حوله
فإذا أصوات البعوض أصوات حرب ، وجلبة ركب ، والحقيقة أن الشاعر يعيش حربا حقيقية أساسها الصراع الذي بداخله
بين أنماط الحياة القديمة ونمط الحياة المجهولة التي يتطلع إليها يقول في ذلك :
وماء قد وردت أميم طام = على أرجائه زجل الغطاط
قليل ورده إلا سباعا = يخطن المشي كالنبل المراط
لقد جمع في المكان بين الماء( طام ) والارتفاع ، وهذا المكان وإن كان يحمل الماء رمز الحياة ،
إلا انه صعب المنال لما يحيط به من مظاهر الخوف من جهة ولارتفاعه من جهة أخرى.
فبت أنهنه السرحان عني = كلانا وارد حران ساطي
و( الذئب ) صورة للعوائق التي تحول دون الشاعر والماء ، وهو في صراع مستمر معها،
ويريد أن يتخطى هذه العوائق ليصل إلى تحقيق حلمه الذي يصبو إليه.
كأن وغىالخموش بجانبيه = وغى ركب أميم ذوي هياط
كأن مزاحف الحياة فيه = قبيل الصبح آثار السيــاط
وانظر إلى تشبيه صوت البعوض حول الماء بصوت الركب والوغى ،
ففيه إشارة إلى المجتمع الإنساني الذي ما يزال صدى جلبته وأصواته تحاصر الشاعر،
كما أن تشبيهه لآثارالحياة بالسياط استحضار للظلم الإنساني الذي لم يقبله )صخر الغي( قبله
ويتغلب الشاعر في النهاية على كل العوائق ، وينتصر على الذئب والخوف ، ويشرب متأبطا سيفه.
شربت بجمه وصدرت عنه = وأبيض صارم إباطي
مما تقدم تظهر الشجاعة والقوة مظهرا من مظاهر التحرر عند الشاعر من الحياة القديمة ووسيلة لتحقيق حلمه الجديد ،
وقد تحمل الصعاليك الجوع والعراء والحر والبرد من أجل تحقيق أحلامهم بحياة جديدة فقد تحمل ( أبو خراش ) الجوع حتى قتله ،
وتحمل ( أبو كبير ) الحر صبرا في رأس شاهقة يحرس أصحابه ......
إن الامتناع عن الأكل في أي إناء كان فعل وجودي ، تمارسه الذات إذا لم تجد خيارا آخر،كما يفعل المضربون عن الطعام اليوم،
فالعزوف عن الأكل عند) أبي خراش (فعل قائم بذاته وليس سلبا فقط ، فعل حر يريد من خلاله البقاء شامخا بأنفه ويود بذلك
( أن يمتنع عن أي نوع من أنواع الحتمية ) ، وحتى لا يستبعده الإحسان.
واني لأثوي الجوع حتى يملني = فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي
مخافة أن أحيا برغم وذلة = = وللموت خير من حياة على رغـم
إنها صورة من صور الحياة الكريمة التي لا سلطان للآخرين فيها على ذات الشاعر،
والموت أفضل بكثير عنده من حياة الخنوع ( وللموت خير من حياة على رغم ).
.............. يتبع ............