رد: عبد الله العريف الهذلي!!
ذكرى لا يجب أن نجهلها أو نتجاهلها نصف قرن على ظهور الصحافة اليومية في المملكة
د. عبدالعزيز بن صالح بن سلمة
في مطلع شهر ربيع الآخر من عام 1373ه، اي قبل خمسين عاماً بالتمام والكمال، ولدت الصحافة اليومية في المملكة، وشهدت مكة المكرمة خروج العدد اليومي الاول لصحيفة "البلاد السعودية"، من مطابع الشركة العربية للطبع والنشر، اولى المؤسسات الاعلامية السعودية الاهلية.
كان وراء ذلك الانجاز الكبير الذي يكاد يكون مجهولاً - بدليل عدم اشارة اي صحيفة او مجلة سعودية اليه في ايامنا هذه رجل مشبع بالحس الوطني المتوقد، ذو همة عالية وارادة صلبة، لم تتراجع امام العقبات والمثبطات، ولم تضعف او تلن بفعل ضعف الامكانات الفنية، ونقص القدرات البشرية المؤهلة لتحقيق الانجاز الحلم بمقاييس المرحلة التي تحقق فيها. لم يتراجع عبدالله عريف صاحب ذلك الحلم عن طموحه الذي صاحبه منذ ان تولى رئاسة تحرير "البلاد السعودية"، تلك الصحيفة التي يثور جدل عبثي حالياً حول ارتباطها بصحيفة يومية تصدر حالياً، صحيفة البلاد.
منذ مطلع ربيع الآخر عام 1365ه، وطوال ثماني سنوات، عمل عريف وابدع في عمله الصحفي على المستوى المهني. وطوال عشر سنوات اي حتى تركه رئاسة تحرير وادارة الصحيفة عام 1375ه، جعل من صحيفته الوطنية الكبرى منبراً حراً للآراء المتعددة والمتحدة في التزامها بثوابت البلاد، وجل من كتب بها طوال سنوات مسؤوليته المباشرة عن تحريرها وادارتها كانوا ممن عاصر مرحلة اكتمال توحيد المملكة، وفئة منهم شكلت قاعدة انطلاقة صحافة عهد المؤسسات الصحفية.
وللأسف الشديد لم تتنبه صحافتنا الى اسهامات عبدالله عريف الجليلة في خدمة الاعلام السعودي، ولم توثق تلك الاسهامات بجميع تفاصيلها، رغم كونها اسهامات محورية بل ومفصلية في مسيرة الاعلام السعودي. وانا هنا استثني من حديثي دور عبدالله عريف في مجال الاصلاح ودوره كناقد اجتماعي شجاع بليغ العبارة وكمصلح مسموع الكلمة لدى كبار مسؤولي الدولة والفعاليات البارزة في المجتمع السعودي؛ وهما دوران استحق بسببهما تقدير مسؤولي الدولة بأجمعهم واكسباه وصحيفته ثقة القراء واحترامهم. ولتكون هذه العبارة واضحة للقراء، يكفي ان نقول انه يكاد لا يوجد خلل في اجهز الدولة او مشكلة من مشكلات المجتمع لم يتطرق له عبدالله عريف بصدق وامانة في افتتاحيات "البلاد السعودية"، وطوال عشر سنوات، كان عريف يطل على القراء - من خلال عموده الذي كان يظهر بانتظام في كل من اعداد الصحيفة - ليطرح رأياً مستنداً الى معرفة بتفاصيل واقع المجتمع السعودي، او مبدياً لفكرة تعين الدولة على تطوير اداء اجهزتها وخدماتها، وتعين المواطنين على حل مشكلاتهم بشتى انواعها. بمعني آخر كان عريف لصيقاً بواقع بلاده، قبل ان يكون مثقفاً كبيراً واسع المعرفة والاطلاع، وقبل ان يكون صحفياً محترفاً
فاق في مهنيته واحترافيته معاصريه ومن سبقوه في مسيرة الاعلام السعودي. وهذه شهادة حق لم يشكك بها اي من الشخصيات والرموز الريادية الاعلامية السعودية.
ولذلك، لم يكن مستغرباً ان يكون محل تقدير الجميع، المسؤولين والقراء وزملائه الصحفيين والمثقفين كذلك. ولم يكن مستغرباً ايضاً ان يعينه الأمير فيصل بن عبدالعزيز في مطلع الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي - اميناً للعاصمة المقدسة، وهي المسؤولية التي تحملها طوال ثماني عشرة سنة متواصلة، حتى وفاته رحمه الله عام 1398ه. وطوال تلك المرحلة التي سبقت وتلت تحول "البلاد السعودية" الى صحيفة يومية، كان لعبدالله عريف سند قوي يشاركه طموحه ويشد من عضده، ويذلل - بما أوتي له من مكانة رفيعة لدى الدولة ولدى فعاليات المجتمع السعودي - كل ما كان يبرز من عقبات في طريق تحقيق حلم عريف. وكان عريف يرى ان في تحقيق هذا الامر واجب سام لابد من القيام به تجاه بلاده.
ذلك الرجل العلم الذي ساند ودعم عريف هو محمد سرور الصبان، رجل المبادرات الخيرة، والوجيه الذي كان الجميع يجمع على محبته وتقدير اعماله؛ الرجل الذي لم تحل مسؤولياته المتعددة والجسيمة قبل توليه منصب وزير المالية سنة 1374ه دون الالتفات الى مشروع عريف الوطني، ولم يكن عريف الا موظفاً في مؤسسة اعلامية اهلية كبير بمقاييس تلك الفترة اسسها الصبان في منتصف الخمسينيات من القرن الهجري الماضي.
وعوداً الى هذه المناسبة التي لا يجب ان تمر وهذا عام حلولها دون التنويه بها، يجدر القول انه في الاعوام التي سبقت صدور العدد اليومي الاول من البلاد السعودية، تطرق عريف الى الصعوبات التي واجهت الصحيفة وحالت دون تحقيق ذلك الهدف مرات عديدة. تحدث عن ذلك اول مرة حينما صدرت الصحيفة مرتين في الاسبوع. ثم اشار اليه حينما الصحيفة في طور الاستعداد للصدور ثلاث مرات في الاسبوع. ومن ضمن ما قاله، بمناسبة صدور الصحيفة بحروف جديد، في مقال بعنوان "صديقي القارئ" (العدد 992، في 26ربيع الآخر 1370ه، 31يناير 1951م) الفقرة التالية: ".. ولقد كنا نأمل ان تصدر الصحيفة منذ اليوم ثلاث مرات في الاسبوع، ولكن اسعار الورق ارتفعت الى ثلاث امثالها من قبل، فأمسكنا خطواتنا على اسف شديد.. ومن اجل ذلك لم نجرؤ على زيادة قيمة النسخة قرشا دارجا.. حتى نتعرف على استعدادك لقبول هذه الزيادة.. وتصدر الصحيفة على ثلاث مرات في الاسبوع في الشهر القادم والا فسنظل كما نحن، وما نظنك ترضى لنا ان نقف فإن اشد ما يعجب له الناس في الخارج الا يكون للمملكة صحيفة يومية، وفي الخرطوم - عاصمة شقيقتنا السودان تسع صحف يومية، وفي المهجر بأمريكا حيث تعيش الجاليات العربية صحف ع
ربية يومية مختلفة، بل في كارديف احدى المدن الصغيرة ببريطانيا صحيفة عربية يومية..".
وعن معاناة الصحيفة والمثبطات التي حالت دون تلبيتها لحاجات القراء وتطلعاتهم، يقول عريف في 7جمادى الاولى 1370ه : "منذ ان بدأت هذه الصحيفة في الصدور(1) وهي تعاني معاناة مريرة من نقص الخبر المحلي. ودعوا جانبا اخبار المغادرة والوصول، والتنقلات الادارية.. الخبر المحلي اكثر من ذلك بكثير، انه يتعلق بالقرارات والاجراءات، والميزانيات والتعيينات، والمخالفات. انه يعنى بمشكلات وشؤون ومصالح الناس بوجه عام. ولذلك كان الخبر المحلي في الصحف الكبرى اهم باب فيها، وللاسف فإنه ليس كذلك في هذه الصحيفة، لان الجهات الحكومية لدينا لازالت تعيش كما في الماضي، وتتبنى الموقف نفسه الذي يرى ان كل شيء سر، رغم انه لم يبقى سر، تقريبا، في هذا العالم..". في العدد اليومي الاول، أتت الافتتاحية التي كتبها عريف - "الحلم الذي تحقق !" لتعبر عن سعادة وفخر صاحب حلم جميل تحول الى حقيقة، ولم تكن المساحة المحدودة للافتتاحية لتفسح المجال للتعبير عن حجم تلك السعادة الغامرة والزهو بما تحقق. ولم يصبغ عريف تلك الافتتاحية بالنرجسية، او حتى الذاتية البسيطة؛ مع ان ذلك الانجاز يبرر لصانعه الانتشاء وتسجيل حقه في ابوته، ومن الذي يعرف اليوم ان عريف هو رائد الصحافة ا
ليومية في المملكة؟، بل وفي الجزيرة العربية كلها؟. ومع ذلك فإنه نسب معظم الفضل في ما حققته الصحيفة الى الشيخ محمد سرور الصبان، رئيس الشركة العربية للطبع والنشر، الشركة المالكة لامتياز صدور الصحيفة.
بدلاً من ذلك نجده يقول على لسان الصحيفة: "كان حلماً يداعب اماني المواطنين جميعاً، ان تكون لهم صحيفة يومية على نحو من الانحاء، وتطلعوا الى ان تصدر "البلاد السعودية" يومياً منذ ان صدرت مرة في الاسبوع، ثم مرتين، ثم ثلاث مرات. لقد جاء صدور "البلاد السعودية" يومياً مع مطلع عهد جلالة الملك سعود الاول، بل انه يكاد يكون اول مشروع تنفيذي يفتتح به هذا العهد الميمون، وهي ظاهرة جديرة بأن تلفت النظر، فالصحافة اليومية في جميع بلاد العالم مقياس تطور الامة، وصفحة حياتها البارزة، وعنوان تقدمها ونهوضها، فصدور صحيفة يومية في مطلع هذا العهد ارهاص بما ستكون عليه المملكة.. في شتى مرافقها".
رحم الله عريف، وعوض هذا الوطن بأمثاله من الرجال العاملين المخلصين، ذوي الهمم العالية، والطموحات التي لا تعرف المستحيل. ولا ادري؛ اذا لم ينوه ويحتفى بإنجازات رجال مثل عريف، فما هي الانجازات التي تستحق التنويه، ومن هم الرجال الذين يستحقون التكريم
|