رمـــاد عــادت به ســاره
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رماد عادت به ساره/د محمد الحضيف
دلفت إلى المكتب ، فهاجمتها رائحة السجائر ، التي امتزجت بكل شيء .. من الجدران ، إلى المقاعد
البلاستيكية ، وحتى الورقة التي ناولها إيّـاها الجندي ،الذي يجلس بملل ،خلف مكتب معدني عتيـــــق . بكاء الأطفال الذين معها ..
ومشـــــــاكساتهم ، لم يترك لها مجالاً لتملأ البيانات ، في الورقة التي طلب منها الجندي تعبئتها .
انشغلت بتطييب خاطر أحدهم ، الذي كان قد تعثر في عتبة الباب . المكتب مصنوع من ألواح جاهزة ، من مواد مسبقة الصنع ..
أقيم ارتجالاً ، في إحدى المساحات الفارغة ، القريبة من البوابة الرئيسية . مؤقت .. كما يقال .. واضح من طريقة بنائه العشوائية ..
شأن كثير من قراراتنا ، وأمور حياتنا : مرتجلة ، مؤقتة .. وعشوائية .
لم تكن العتبة .. سوى طوبتين اسمنتيتين ، وضعتا بدون نظام ، فانزلقت بينهما القدم الصغيرة ، فتقرح ظاهرها،
وهو ما جعل الحذاء يـــــزيد حـــدة الألم ، عند أي حركة ، فيتألم الطفل .. ويلجأ للبكاء .
حين أكملت تعبئة البيانات المطلوبة ، توجهت إلى الجندي نفسه، الذي علق بصره علـــــيها ، لحظة خرجت .. من وراء ستارة زرقاء بهت لونها،
مثبتة في إحدى زوايــا المكـتب ، لتفصل مكان انتظار النساء عن بقية المكتب . كان الجندي يتأملها وهي مقبلة، ويغرز نظرتين حادتين في
جسدها ، الذي التفت عليه العباءة ، فلا يظهر منها إلاّ أطراف أناملها .. التي ترى أن عيني الجندي تستقر عليها ،
بعد أن تتفحصا جسمها ، فلا تجد شيئاً أبيض ، وسط ذاك السواد ، تقع عليه .. إلاّ هي .
تناول الجندي الورقة منها ، بطريقة بدت ، كما لو أنه يحاول أن تلامس يده ، أطراف أناملها . وقفت تنتظر ، وهو يراجع الورقة بسرعة
، ليتأكد أن الخانات كلها مملوءة .. رفع عينية باتجاهها وبنفس النظرتين الحادتين ، المملؤتين رغبة .. اللتين لم تفارقاه .. خاطبها :
- اجلسي .. سنرفع الأوراق للضابط ..
استدارت عائدة ، وأخذت تحـاول بدأب ، نزع يد الطفل ، الذي يتبعها و يتشبث بعـــــباءتها ، فيبرز من جسمها ما تحاول أن تستره .
كانت وهي تجاهد لتخليص عباءتها من يــد الطفل ، يسيطر عليها إحساس أن نظرات الجندي تتبعها ، لتقع حيث يشد الطفل العباءة ..
فتزداد توتراً ، وتعجل خطواتها لتتوارى خلف الستارة .
مضت أربعون دقيقة .. بطيئة .. قاتلة ، تأملت خلالها جدران المكتب ، المغـــــــــطاة بمــادة ( فلّينية ) لينة ،ذات لون أبيض مطفي .. حفر
علــــــــــــــيها بعــــــــض الــــــــــــزوار الســــابــقين ( ذكرياتهم ) .. منظر أعقاب السجائر الهائلة ، المتكدسة على هيئة أكوام ،
تحت مكاتب الجنود.. كان لافتاً . هناك بقع أوساخ على الأرض .. في كل ناحية ، وأثار تعرق داكنة ، خلّفها تعاقب الأيدي على الجدران ،
و أسطح تلك المكاتب . مستوى النظافة في المكان جعلها تحاذر أن تضع يدها في أي مكان .
لم تلهها مشاكسات الأطفال ،وأصواتهم المرتفعة ، عن التقاط جانب من حوارات الجنود التافهة ، التي لا تخلو من كلمات خادشة للحياء ..
خصوصاً لامرأة مثلها . هذا السلوك .. ليس مقصوراً عليهم .. معظم مجالس الرجال الخاصة ، تدور فــــيها أحــــــــــاديث ( جنسية ) .. حقيقة
مجتمعية تعرفها .. أطرف تعليق سمعته حــــــــــــــــول هــذه ( الظاهرة ) .. كان من إحدى الصديقات :
( نحن شعب ليس لديه قضية .. مجتمعنا حلت جميع مشاكله ) ..!
تعلم من زوجها الراحل ، الذي كان موظفاً مدنياً في قطاع عسكري ، أن المستوى التعليمي لهؤلاء الجنود متدن جداً ، وأن بعضهم ينحدر من
مستويات اجــــتماعية ، يغلب عليها العوز والجهل . . وضعف مستوى الذوق العام ، في الخطاب والمعــاملة .
زوجها كثيراً ما اشتكى لها من فظاظة التعامل .. وسوء الخلق ، لدى الغالبية من هــــؤلاء الأفــــراد ، ونظرتهم الفوقية لعموم الناس ..
بسبب إحســـاسهم المــــــــزيف بامــــــــــتـــــلاك ســلطة ، تخولهم مساءلة غيرهم من الناس .. من غير العسكريين ،
وتولد لديهم روح عداء ، تدفـعهم أحياناً ، إلى التعدي على الآخرين .
تذكر أن زوجها يرد السلوك العدواني لبعض هؤلاء الجنود ، والإحساس المزيف بالسلطة عند أكثرهم ، إلى ( الحس الأمني ) العالي ، الذي تضخه
المؤسسة الأمنية فيهم ، فيتضخم الهاجس الأمني لديهم . هذا الوضع يؤدي ، كما فهمت منه ، إلى أن يتخيل الواحد منهم ، أنه ( وزير الداخلية ) ،
وأن بقية أفراد الناس ، ليسوا إلا عناصـــر مشــبوهة .. يجب إيقافهم ، ومساءلتهم ، وإظهار سطوة السلطة عليهم ..
وأحياناً إذلالهم .. لتتحقق ( هيبة ) الدولة ..!
الوساخة والإهمال ، التي عليها المكتب ،والمواقف التي تتعرض لها ، من البوابة .. حيث ينزلها وأطفالها سائق ( الليموزين ) ..
وإلى أن تصل إلى هنا ، إضافةً إلى نظرات بعض الجــنود إليها.. كل ذلك ، زادها اقتناعاً بالـــرأي القـــديم لزوجها ، وموقفه تجاه هؤلاء،
وهو ما حسبته يوماً ، تبرماً منه .. من واقع لم يقدر على التكيف معه .
ترسخ لديها هذا الاقتناع ، بعد تكرار ترددها على المكان .. ومرورها بنفس الإجراءات الروتينية المملة .. وتعرضها لنفس الأسئلة ..
أحياناً من نفس الأشخاص ، والموقف المريب لأحد الضباط ، الذي طلب منها في إحدى المرّات ، أن تأتي لوحدها .. من دون الأطفال
، إذا رغبت أن تقابله . أو ذلك الذي أخذ رقم الهاتف ، وتكررت اتصالاته عليها .
كاد أن يتحول هذا الشعور تجاههم .. عندها ، إلى ما يشبه الاعتقاد ، لولا بعض المواقف الإنسانية ، التي تبدر من بعض الجنود .. على ندرتها،
أو ذلك التصرف الشهم ، لأحد الضباط ، الذي نزل من سيارته ، وطلب من سائقه الخاص أن يوصلها إلى بيــــــتها ، واســـتقل هــــو ســــــيارة أجرة .
كانت سارحة ، تتذكر آخر لقاء لها مع زوجها الراحل ، الذي قتلته رافعة سقـــــطت عليه ، في أحد المواقع الإنشائية ، أثناء قيامه بالإشراف على
التنفيذ . في اللحظة التي انتزعت فيها آهة وجع من صدرها ، ورفعت يدها لتمسح دمعات تدحرجت على خديها .. أسى على فراق الغالي ،
جاءها صوت الجندي عالياً :
- يا حرمة .. يا حرمة، الضابط يقول : أيش المطلوب .. ؟
سئلت هذا السؤال ، بعدد المرات الكثيرة التي جاءتها إلى هنا . صار يساورها الشك حول طبيعة الأسئلة ، والغرض من تكرارها .
لماذا تسأل أسئلة أجابت عليها أكثر من مرّة .. ولماذا تشرح أمراً ، وضحته قولاً وكتابةً ، في كل مرّة أتت بها إلى هذا المكان ؟ .
تملأ ورقة مثقلة بالتفاصيل، وتنتظر أربعين دقيقة .. لتسأل بعدها : ماذا تريدين .. ؟ !
أربعون دقيقة اقتطعتها من إنسانيتها وكرامتها ، وهي تقذف مثل كرة ، مـــن زمــن لزمن .. تعالي بكره .. تعالي الأسبوع الجاي ،
ومن عـــــــــــين ( جائعة ) لأخــــــــــــرى .. الموضوع ما هو عندي .. عند الضابط .. عند الرقيب .
أربعون دقيقة .. نهبت من وسن تحتاجه أعين صغيرة ، أعياها السهاد .. يتماً ، وذلاً .. وليل طويل ، يملؤه شبح الأب الغائب ،
وأنين امرأة جريحة : زوج طواه الردى ، وولد غيبته السجون ..!
أحياناً تعزو ذلك الذي تتعرض له ، إلى سوء التنظيم .. أو ما كان يسميه زوجها الراحل ، الفــــوضى والتخلف .. بلعت غصة مملوءة بالمرارة ،
وهي تخنق ابتسامة شاحبة ، حين تذكرت كلمات زوجها ، يوم عبرّ بإحباط ، عن واقع يشاهده يومياً ، في القطاع الذي يعمل فيه :
لدينا في إدارتنا هذه .. وفي إدارات مشابهة ، لا يستحي التخلف .. بل يســـــــــــير مرفوع الرأس ..
حيث التعامل والممارسة هنا ، رذيلة .. يهون عندها التخلف .
كان صدى صوت الجندي .. يردد السؤال : ( أيش المطلوب .. أيش المطلوب ) ، يرن في أذنيها .. ويزرع غيظاً . لم تشأ أن ترد على سؤال الجندي
، وهي في مكانها حيث ستضطر لرفع صوتها ، خاصةً وأنها لاحظت ، في مرّات سابقة ، أن هناك تعمداً لتكرار السؤال ، والدخول في تفاصيل مفتعلة
.. وأن تتكرر منها بالتالي .. الإجابة والردود ، فتدخل فيما يشبه الحوار . يستمتعون بسماع صوتها .. لقد سمعت أحدهم في إحـــدى المرّات ،
يقول لصاحبه :
- أووف .. يا عليها صوت .. !
نهضت وتوجهت نحو الجندي ، حيث كان جالساً ، ينادي من وراء مكتبه . قالت بصوت خفيض :
- أنا طلبت زيارة ..
- زيارة أيش .. ؟
كان يحدق بها ، وهي ترمق عينيه الغائرتين ، من وراء غطاء وجهها ، وتتأمل شفتين يابستين ، ترك التدخين الشره ، أثاره عليهما ..
فتراكمت فوقهما طبقة سوداء ، وبرزت فيهما تشققات دامية ، لا يفتأ بين وقت وآخر ، يمسحها بظاهر كفه .
تنفرج شفتاه عن أسنان عاث السوس فيها ، وما نجا منها من التسوس ، تتلبد فوقه طبقة جيرية صفراء .. وبقايا طعام .
شعرت بالاشمئزاز ، حين تذكرت أنه في إحدى زياراتها الأولى ، أدخل أحدهــم وجهه ، من نافذة سيارة الأجرة ، التي جاؤوا بها ، عندما كانت
تستفسر منه ، عن بعض الإجراءات . وقتها لم تتبيّنه جيداً ، رغم أنها في لحظة من اللحظات ، كانت تشاهد الرذاذ المتطاير من فمه ،
يقع على ملابسها .
لج في ذهنها خاطر : أي فم يشتهي أن يقترب من هذه الأفواه ؟ ! إذا لم يردع هؤلاء دين وحياء .. ألا يردعهم ، التبصر في أشكالهم المقززة ؟ !
استـــفزها أسلوبه في السؤال : ( زيــــــــارة أيش ..؟ ) . من يمــــــكن أن يكون خلـــف هـــــذه الأسوار ، يضطر امرأة لتسفح حياءها ..
في أماكن كهذه ، ويدفـــــــــــعها لتـــــــتردد بيـــن ( كائنات ) تتـشهاها .. لا ترى فيها إلا ( وعــاء ) للرغبة ، يمكن ..
مع بعض الابتزاز والمساومة حيازته ..؟
- زيارة ولدي .. كتبت هذا في الورقة .. التي طلبتم مني تعبئتها ..!
- ولدك مسجون ..؟
- نعم ..!
- أيش قضيته ..!
صمتت .. لم تجبه . تعرف أن الفضول سلوك اجتماعي رائج ، لــــــكن .. لا يـــكـــون فــــجاً ، بليداً بهذا الشكل
. لم ينتظر إجابتها .. أشار إليها أن تعــود إلى مــكانها .
بعد ربع ساعة فوجئت به يقف قريباً من الستارة . كان في وضع يستطيع فيه أن يراها . ارتبكت حينما رأته ،
وأسرعت بتغطية وجهها ، وحاولت أن تجمع العباءة حول جسمها . كان يبدو أنه هناك ..
منذ بعض الوقت ، واقف في مكانه يراقبها . فهو .. ما أن لاحظ ارتباكها ، بعـــــد أن رأته ، حتى بادر قائلاً :
- الضابط يقول ما فيه زيارة اليوم ..
شعرت بالاحتقار ، وبالغيظ يأكل قلبها :
- كيف .. ؟ هذه ثالث مرّة أجيء ، وتقولون لي ما فيه زيارة ..!
- هذا كلام الضابط .. تقدرين تكلمينه .. إذا تريدين ..
- أكلمه .. لماذا ؟ هذا الذي تصنعونه بي حرام .. آتي أجرجر هؤلاء الأطفال ، من صباح رب العالمين ..
من ( ليموزين ) إلى ( ليموزين ) .. وفي الأخير ..
قاطعها :
- والله ما أحد قال لك تجيئين ، بدون ما تتصلين .. وتعرفين مواعيد الزيارات .
خنقها البكاء .. فسكتت . دفعت الأطفال أمامها ، وتوجهت إلى المكتب ، الذي أشاروا لها أنه للضابط المناوب . حين دخلت ، أخذ يطيل النظر إليها ،
ويصعد بصره فيها . كلهم سواء ، لا فرق بين جنديهم وضابطهم .. حدثت نفسها . أنا أمامهم ..
لست أكثر من جسد يشتهى . لست أماً ملّوعة
،ابنها مكبل بقيوده ، خلف القضبان .
- أريد زيارة ابني ..
- ما قالوا لك ، ما فيه زيارة اليوم ؟ .. أنا أحب أساعدك ، لكن .. ما أقدر ..
- لكن المرّة الماضية .. والتي قبلها ،ومرّات أخرى كثيرة .. ردّيتوني ، وقلتم ما فيه زيارة ..
- صحيح .. المرّة الماضية ما كان ولدك موجوداً.. كان في المحكمة ..
- والتي قبلها ..؟
- أيضاً .. ما كان موجوداً .. كان في المحكمة ..
- في المحكمة مرتين .. وما خلص موضوعه .. ؟
- لا .. المرّة الأولى لم يأتوا خصومه .. وأجل الشيخ النظر في القضية .. والمرّة الثانية ما جلس الشيخ ..!
- ما جلس الشيخ .. ؟ !من هو الشيخ .. أين مكتبه ، أين يجلس ..؟
- الشيخ حمد المقفي .. مكتب رقم ( 19 ) ، في المحكمة المستعجلة ..!
المحكمة المستعجلة .. والولد يدخل شهره السابع في السجن ..؟! كيـــــــف لو لــــم تـــــكن ( مستعجلة ) ؟ !..
تساءلت بصوت غير مسموع ، وشعرت بوجع يتراكم .. ويجثم على صدرها ..!
يــتـــبـــع
التوقيع |

|
|