الدكتور أحمد الغامدي وهيئة كبار العلماء في المملكة
[gdwl]لغامدي: القول بوجوب صلاة الجماعة فيه إعراض عن النصوص الأخرى الدالة على خلافه
[/gdwl]
الثلاثاء, 20 أبريل 2010
ساري الزهراني - جدة
[imgl]http://www.al-madina.com/files/imagecache/node_photo/rbimages/1271689895050242600.jpg[/imgl]
خلصنا في الحلقة الأولى والثانية من الدراسة العلمية التي قام بها الشيخ الدكتور أحمد القاسم الغامدي رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة المعنونة بـ (قوافل الطاعة في حكم صلاة الجماعة) إلى ذكر تسعة أوجه لحكم صلاة الجماعة لا تخلو من ضعف وتعسف -كما أبان عن ذلك صاحب الدراسة-، وأن الاحتجاج على وجوب صلاة الجماعة تحتمل وجوهًا كثيرة يسقط بها الاستدلال، وأن حديث الأعمى يعارضه عموم قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج)، كما أن حديث (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) موقوف وسنده ضعيف. وفي حلقتنا الأخيرة هذه نواصل عرض ما تبقى من هذه الدراسة مبتدئين باستكمال ما توقفنا عنده في الحلقتين السابقتين حيث يؤكد الشيخ الدكتور أحمد الغامدي على أن القول بوجوب صلاة الجماعة فيه إعراض عن النصوص الأخرى الدالة على خلافه، إذ لا بد من التفريق بين إقامة صلاة الجماعة في الناس وبين إقامتهم في صلاة الجماعة، كما أن إقامة الناس في صلاة الجماعة مسألة اجتهاد ولا جواز الإنكار في المسائل الاجتهادية، وأن ما يراه ولي الأمر في هذه المسائل يرفع الخلاف فيها لما له من حق الطاعة؛ لكنه لا يزيل الخلاف، كما أن فتح المحال لمصلحة عامة كالصيدليات ومحطات الوقود والمخابز في أوقات الصلاة جائز.
يؤكد الشيخ الغامدي: إنه لا يتم الاستدلال بقول الله تعالى: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)- كذلك على وجوب صلاة الجماعة؛ لأن توجيه الأمر فيه إلى جماعة المخاطبين لا يقتضي لزوم تأديتهم للمأمور به جماعة لا أفرادًا، وإلا للزم أن يقال في قولـه تعالى في آية الوضوء (فاغسلوا وجوهكم...) [المائدة: 6] إنه يجب الوضوء مع الجماعة، وهذا لا يقوله أحد. هذا على أن إقامة الوجوه في الآية إنما هو تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى عند كل مسجد، وأنه يعني بالمسجد هنا كل مكان متخذ لعبادة الله تعالى، وهو أعم من أن يراد به المسجد الذي هو البنيان المعروف الآن، أشار إلى هذا المعنى ابن عاشور في تفسيره (8/68)، وعلى هذا فإن الآية تشمل كل أنواع العبادات ولا تنحصر في الصلاة فقط، فالآية لا يتم الاستدلال بها على وجوب صلاة الجماعة، وإلا للزم ذلك كذلك في سائر أنواع العبادات، فليتأمل.
وأما قولـه: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه...) إلى آخر الآيتين - فأشار الغامدي إلى أن فيها الحث على تعمير المساجد برفع الأذان فيها والاشتغال فيها بالذكر والصلاة، وفيها أيضا ذكر المدح والثناء لمن ذكر وصفهم أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وليس فيها ما يفيد وجوب إقامة الصلاة جماعةً لا بالمنطوق ولا بالمفهوم، فليتأمل.
وأما قولـه: {يوم يكشف عن ساق...} إلى آخر الآيتين.
فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد لـه كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا)) - هذا لفظ البخاري في صحيحه في كتاب التفسير (برقم 4919)، ففيه بيان أن المتوعد عليهم في الآية إنما هم المنافقون، فلا يصح حمل الآية على أن الوعيد فيها من أجل ترك شهود الصلوات مع جماعة المسلمين في مساجدهم مطلقًا، أي سواء كان ذلك نفاقًا ورياءً أم ليس كذلك؛ لأن ذلك عندهم يعدّ تركًا لاستجابة الدعوة إلى السجود، وهذا خطأ في حمل معنى الآية، بل الوعيد في الآية كما قدمنا متوجه لقوم منافقين عرف من شأنهم أنهم تعمدوا ترك صلاة الفجر والعشاء كفرًا ونفاقًا ويصلون النهار تظاهرًا ورياءً. كما أن السجود في الآية -الذي هو بمعنى الصلاة- عام يشمل صلاة الجماعة والمنفرد، فلا وجه لتخصيصه هنا على أنها صلاة الجماعة في المساجد، إلا إذا صح في ذلك خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يصح ذلك. نعم، قد روي في الباب أحاديث، لكنها لا ينهض شيء منها على المطلوب، إما لضعف فيها، أو لأن ما صحّ منها له محمل أرجح من هذا، أو لكونه موقوفًا لا يتم به الاحتجاج.
وحول القول الرابع قال الشيخ أحمد الغامدي: إن صلاة الجماعة فرض على الكفاية، وأشار الحافظ في الفتح إلى أنه ظاهر نص الشافعي، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وقال به كثير من المالكية والحنفية ونصره النووي في المجموع. واحتجوا على ذلك بحديث مالك بن الحويرث الليثي مرفوعًا: ((إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ثم ليؤمكما أكبركما))، وهو من الأحاديث التي احتج بها أهل القول الثاني، وقد بينا هناك أن الحديث إنما فيه بيان مشروعية إمامة الأكبر سنًا لمن هو دونه، وليس فيه دلالة على ذلك.
وعن الاحتجاج بحديث أبي الدرداء مرفوعًا: ((ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا يؤذن ولا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية)).
قال الشيخ الغامدي هذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داوود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وقد تفرد به السائب بن حبيش، وقد وصفه الحافظ في التقريب بأنه مقبول، أي حيث يتابع - كما صرح به في مقدمة الكتاب، وسئل أحمد عنه، فقيل لـه: أثقة هو؟ قال: لا أدرى اهـ،. فالحديث عندي إسناده ضعيف ولو صح لم يكن في معناه ما ينكر، وإنما فيه الوعيد على من لم يقم الجماعة في بادية أو قرية إذا كانوا ثلاثة فأكثر، لئلا يستحوذ الشيطان عليهم، وهذا يعني أنه إن قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين. وحول القول الخامس أبان الغامدي أن صلاة الجماعة في المكتوبة سنة مؤكدة، وقد أشار القاضي عياض في ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) إلى أن هذا قول عامة فقهاء الأمصار، وأشار ابن عبدالبر في التمهيد إلى أنه قول جماعة من العلماء، وأكثر الفقهاء بالحجاز، والعراق، والشام (انظر: النسخة المرتبة على الأبواب الفقهية من التمهيد (4/217-218). ولكنه قال: وإلى هذا القول ذهب ابن عبدالبر -كما في الاستذكار، والشوكاني- كما في الدرر البهية وغيرها. وحول الاحتجاج على ذلك بما رواه مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده، بخمس وعشرين جزءًا))، وفي رواية للبخاري ومسلم في صحيحيهما: ((بسبع وعشرين درجة)).
قال ابن عبدالبر في التمهيد: في هذا الحديث من الفقه معرفة فضل الجماعة، والترغيب في حضورها... إلى أن قال: وفيه دليل على جواز صلاة الفذ وحده، وإن كانت الجماعة أفضل اهـ.
وبيّن ابن عبدالبر وجه دلالة الحديث على قوله ذلك فقال:
لا يخلو قولـه صلى الله عليه وسلم ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ)) من أحد ثلاثة أوجه: إما أن يكون المراد بذلك صلاة النافلة، أو يكون المراد بذلك من تخلف من عذر عن الفريضة، أو يكون المراد بذلك من تخلف عنها بغير عذر.
فإذا احتمل ما ذكرنا، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال: (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)، علمنا أنه لم يرد صلاة النافلة، بتفضيله صلاة الجماعة على الفذ، وإنما أراد بذلك الفرض، وكذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: (من غلبه على صلاته نوم كتب لـه أجرها)، وكذلك قوله: (إذا كان للعبد عمل يعمله فمنعه منه مرض أمر الله كاتبيه أن يكتبا لـه ما كان يعمل في صحته)، وكذلك قوله في غزوة تبوك لأصحابه: (إن بالمدينة قومًا، ما سلكتم طريقًا، ولا قطعتم واديًا، ولا أنفقتم نفقة، إلا وهم معكم، حبسهم العذر). علمنا بهذه الآثار وما كان في معناها أن التخلف بعذر لم يقصد إلى تفضيل غيره عليه، وإذا بطل هذان الوجهان صح أن المراد بذلك هو المتخلف عن الواجب عليه بغير عذر، وعلمنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفاضل بينهما إلا وهما جائزان، غير أن أحدهما أفضل من الآخر. ومما يؤكد ذلك حديث محجن الديلي حين قال لـه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منعك أن تصلي معنا؟ ألست برجل مسلم؟ قال بلى، ولكني قد صليت في رحلي)) وقد علم أنه صلى منفردًا وكذلك قولـه صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضرت العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء)). وقد يكون من العذر: المطر، والظلمة، لقولـه: ((ألا صلوا في الرحال))، ومن العذر أيضا: مدافعة الأخبثين: الغائط والبول... - اهـ كلام ابن عبدالبر بنصه.
وحول حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)).
قال الغامدي فقولـه: ((إذا صلى لنفسه)) عام يشمل النفل والفرض، ففيه إقرار على صلاة المنفرد، وإن كان في المكتوبة. وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة)) متفق عليه.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت والسوق جماعة وفرادى، ولكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردًا، قال ابن دقيق العيد: وهو الذي يظهر لي، وقال الحافظ: وهو الراجح في نظري اهـ. وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصليها ثم ينام)، وفي رواية أبي كريب عند مسلم: (حتى يصليها مع الإمام جماعة) متفق عليه.
وحديث المسيء صلاته عند الشيخين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا دخل المسجد، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في ناحية المسجد، فصلى ثم جاء فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وعليك السلام، ارجع فصلّ فإنك لم تصل))، فقال في الثانية أو في التي بعدها: علمني يا رسول الله. فقال: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر من القرآن...)) - فذكر الطمأنينة في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين. قال صديق حسن خان في الروضة الندية في باب صلاة الجماعة عند ذكره الأحاديث المشعرة بجواز صلاة المنفرد: ومنه حديث المسيء صلاته المشهور، فإنه أمره بأن يعيد الصلاة منفردًا اهـ. قلت: وهذا محتمل؛ لأننا لا نستطيع الجزم بأن الصلاة التي صلاها الرجل كانت فريضة أم نافلة، وكون النبيّ أمره بالإعادة فيه ما يشعر بأنها فريضة، والله أعلم. وأكد الشيخ الغامدي أن تلك الأحاديث كلها ثابتة، ومفادها يدور على وجه مشترك من الحكم، وهو جواز صلاة المنفرد وإجزاؤها مطلقًا، وهذا هو الحق في المسألة.
وحديث عتبان بن مالك في صلاة النبي -عليه السلام- له في منزله ليتخذه مصلى في بيته، ومعلوم أنه يلزم من هذا التخلف عن جماعة المسلمين في مساجدهم، ويشهد لهذا المعنى أيضًا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه، قال: ((سقط النبي -صلى الله عليه وسلم- عن فرس فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعدًا، فصلينا وراءه قعودًا...)) - الحديث، وفيه جواز صلاة الجماعة في المنازل. فهذا وما قبله كله صارف قوي لمعنى حديث الهمّ عن ظاهره، وأنه لا يراد به حقيقته، وإنما يراد به المبالغة في الزجر، ولقصد الحث على مخالفة فعل أهل النفاق. قلت: وبهذا التوجيه تلتئم معاني النصوص أجمع ويصدق بعضها بعضًا، ولله الحمد والمنة. قال الشوكاني في نيل الأوطار (4/9): وقد تقرر أن الجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الواجب، وتبقية الأحاديث المشعرة بالوجوب على ظاهرها من دون تأويل والتمسك بما يقتضي به الظاهر فيه إهدار للأدلة القاضية بعدم الوجوب، وهو لا يجوز اهـ.
وأبان الغامدي بالقول: فلابد أن يعلم أن هناك فرقًا بين إقامة صلاة الجماعة في الناس وبين إقامة الناس في صلاة الجماعة فإقامة الجماعة في الناس فرض من الفروض التي على ولي الأمر ولتحقيق ذلك تبنى المساجد ويرفع فيها الأذان ويحث الناس عليها، أما إقامة الناس في صلاة الجماعة فمسألة اجتهادية اختلف العلماء في حكمها فمنهم من قال بوجوب الجماعة ومنهم من قال بغير ذلك والأكثرون قالوا: إنها سنة وهو قول جمهور من أهل العلم منهم أبوحنيفة وجماعة من الشافعية والمالكية وعامة الفقهاء ورواية عن الإمام أحمد -رحمهم الله- والمتقرر عند أهل العلم هو عدم جواز الإنكار في المسائل الاجتهادية.
ونبه الشيخ الغامدي إلى أن ما يراه ولي الأمر في المسائل الاجتهادية يرفع الخلاف فيها لما له من حق الطاعة لكنه لا يزيل الخلاف ومسألة إغلاق المتاجر حين إقامة الصلاة متفرعة عن ذلك الاختلاف فينسحب ذلك الاختلاف على الاختلاف في أصلها فمن قال بوجوب الجماعة من العلماء فرع على ذلك وجوب إغلاق المحال لأدائها جماعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والقائلون بهذا مع ذلك يرخصون فيما كان تركه من المحال لمصلحة عامة كالصيدليات المناوبة ومحطات الوقود المناوبة وما خيف معه ضرر على مصلحة خاصة كالمخابز وما تخشى سرقته أو يخشى معه فوات ما لا يدرك من حوائج الناس ومن قال بأن صلاة الجماعة سنة من العلماء فرع على ذلك عدم وجوب إغلاقها مع القول ببقاء الحث عليها لفضيلتها دون إيجاب.
ويخلص الدكتور الشيخ الغامدي في دراسته إلى أن حكم صلاة الجماعة بالنظر إلى إقامتها في الناس فرض من فروض الإمام وبالنظر إلى إقامة الناس فيها بعد إقامتها سنة مؤكدة واظب عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- والحث عليها هو المأثور وقد بسطنا أدلة هذا في موضعه كما استوفينا فيه النظر في أقوال المخالفين وأدلتهم والتعقيب عليها جملةً وتفصيلًا. ولا يخفى أن تحقيق هذا المقام من المضايق التي اضطرب فيها الكثير وجبن، إلا أننا بتأمل النصوص مجتمعة نقطع بأن القول بالوجوب فيه إعراض عن النصوص الأخرى الدالة على خلافه، وبفهمها مجتمعة يتضح الحق الذي أوضحناه ولا غبار عليه والقلب إليه مطمئن، ولله الحمد.
ونبه الشيخ الغامدي إلى أن كثيرًا من مسائل الاجتهاد إذا فشا قول بعض أهل العلم فيها في أحد المجتمعات وأطبق العموم عليه ولم يشتهر سواه كان ذلك مما يعين على خفاء الحق، وربما أدى ذلك إلى استبشاع المخالف لديهم لأجل ما اشتهر عندهم، حتى إن بعضهم ليعرض عن سماع أي شيء من ذلك المخالف وإن كانت الحجة معه، وربما أغرى ذلك بعضهم بإيذاء المخالف له والنيل من عرضه، وقد جرى لنا في هذه المسألة وفي غيرها شيء من ذلك، إلا أن تعظيم الحق ومحبته أعظم في قلوبنا من تعظيم الخلق ومحبتهم.
[fieldset=بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بوجوب صلاة الجماعة في المساجد في حق الرجال]null[/fieldset]
[gdwl]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
فإن إقامة الصلاة في الجماعة في المساجد من سنن الهدى ومن شعائر الإسلام الظاهرة قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مبينا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة رضي الله عنهم في ذلك قال : من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى. وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط بها عنه سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. رواه مسلم في صحيحه.
فقد بين رضي الله عنه أن صلاة الجماعة في المساجد من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الواجبة الإتباع وأن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بها فحافظوا على صلاة الجماعة في المساجد وأنكروا على من تخلف عنها وأن من عادة المنافقين في زمانهم التخلف عن صلاة الجماعة في المساجد ، فليحذر المسلم من أن يشابه أولئك القوم في تخلفه عن الصلاة في المسجد مع جماعة المسلمين ، وهذا كله مأخوذ من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله في صلاة الجماعة . من ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فرخص له ، فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة. قال نعم . قال فأجب .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) قال الحافظ ابن حجر في البلوغ :رواه ابن ماجة والدار قطني وابن حبان والحاكم وإسناده على شرط مسلم لكن : رجح بعضهم وقفه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها. ثم آمر رجلاً فيؤم الناس. ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم) الحديث متفق عليه واللفظ للبخاري. وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا) . متفق عليه.
فهذه الأحاديث تدل على وجوب الذهاب إلى المسجد بعد الآذان لأداء الصلاة في الجماعة . قال شيخ الإسلام بن تيمية : لا ينبغي له أن يترك حضور المسجد إلا لعذر كما دلت على ذلك السنن والآثار والصلاة في المساجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته وفي تركها بالكلية أو في المسجد محو لآثار الصلاة بحيث أنه يفضى إلى تركها ولو كان الواجب فعل الجماعة لما جاز الجمع للمطر ونحوه وترك الشرط وهو الوقت لأجل السنة ومن تأمل الشرع المطهر علم أن إتيان المسجد لها فرض عين إلا لعذر . انتهى
وفي هذه الأيام تنشر بعض الصحف مقالات لبعض الكتاب يهونون فيها من أهمية صلاة الجماعة في المسجد نظراً لأن بعض العلماء قال إنها سنة ، ولهذا يستنكرون أمر الناس بها ، ويستنكرون إغلاق المحلات التجارية وقت الصلاة ، ولا شك أن الواجب هو إتباع الدليل من الكتاب والسنة فيما دلا عليه من وجوب صلاة الجماعة في المسجد ، فهما حجة على من خالف في ذلك وفي غيره .
وترى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن التهوين من أمر هذه الشعيرة في قلوب المسلمين مخالف لنصوص الكتاب والسنة ، ويخشى على من قال ذلك أن يكون داخلا في عموم قول الله تعالى(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) الأحزاب : آية ( 36 ) . وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ )النور : آية (63) . قال الإمام أحمد رحمه الله عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ( النور : آية 63 ) وأما إغلاق المحلات التجارية حتى تقضى الصلاة فذلك لأجل أداء صلاة الجماعة . قال الله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ? وَمَنْ يَفْعَلْ ذَ?لِكَ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ( المنافقون : آية 9 ) وقال تعالى عن المساجد (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ? يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)) ( النور : آية 36 ـ 37 .
قال ابن كثير في تفسيره وقال مطر الوراق : كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ( النور : أية 37 ) يقول عن الصلاة المكتوبة وكذا قال الربيع بن أنس ومقاتل ابن حيان ، وقال السدي يعني الصلاة في جماعة وأما أنه يكون هناك رجال يتتبعون الناس المتكاسلين فيأمرونهم بالذهاب إلى المساجد لصلاة الجماعة فهذا من هدي السلف الصالح ومما لا يتم الواجب إلا به وكان هديه صلى الله عليه وسلم تنبيه الناس في الطريق وإقامتهم إلى الصلاة فكان صلى الله عليه وسلم لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة أو حركه برجله رواه أبو داود وسكت عليه محتجاً به .
وكان عمر وعلي رضي الله عنهما يوقظان الناس لصلاة الفجر كما ثبت ذلك في سيرهما وجرى عليه العمل في هذه البلاد قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله كما جاء في الدرر السنية ( 4 / 418 ) يلزم الأمير أن يلزمهم تفقد الناس في المساجد حتى يعرف من يتخلف عن الصلاة ويتهاون بها ويجعل للناس نوابا للقيام على الناس بالاجتماع للصلاة في جميع البلدان . فإن هذا مما شرعه الله ورسوله وأوجبه كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
وقد ورد الزجر والوعيد على المتخلفين عن الصلوات الخمس في المساجد حيث ينادى لها والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومن المعلوم أن الصلاة لا تقام إلا بالاجتماع لها والتهاون بذلك من أسباب إضاعتها وذلك يوجب عقوبة الدنيا والآخرة كما قال تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ? فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ( مريم : آية 59) انتهى .
هذا ولصلاة الجماعة في المساجد فوائد عظيمة : منها أن فيها أداء شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام ومنها : أن فيها براءة من النفاق . كما قال الله تعالى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) ( التوبة آية 18) أي يعمرها بالصلاة فيها والتردد عليها.
ومنها : أن المصلي في الجماعة يبتعد منه الشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيها الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وزاد رزين في جامعه: (وإن ذئب الإنسان الشيطان إذا خلا به أكله).
ومنها : أن الصلاة في الجماعة يحصل بها التعارف والتآلف والتعاون بين المسلمين إلى غير ذلك من المصالح العظيمة ولذلك شرع الله بناء المساجد وتهيئتها لاجتماع المصلين فيها.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ (الرئيس )
عبدالله بن محمد المطلق (عضو )
صالح بن فوزان الفوزان (عضو )
محمد بن حسن آل الشيخ (عضو )
عبدالله بن محمد بن خنين (عضو )
[/gdwl]
[read]
الشيخ : صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
16/5/1431
المسجد النبوي
ملخص الخطبة
1- حرمة الشريعة. 2- نشر الفتاوى الشاذة. 3- التحذير من تصدّر الغرباء عن العلم للفتوى. 4- التحذير من التسرع في الفتوى. 5- من سمات أهل الأهواء.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله فتقواه أربحُ بضاعة، واحذروا معصيتَه فقد خابَ عبدٌ فرَّط في أمر الله وأضاعه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، للشريعةِ حُرمةٌ عظيمة، لا يجوز انتهاكُها ولا يحِلّ تنقُّصها، ولها أحكامٌ لا يجوز تغييرها ولا تبديلها.
وإنَّ مِن التعدِّي على حرمةِ الشريعة وأحكامها نشرَ فتاوى شاذَّة وأقوالٍ ساقطة تهدِم الإسلامَ وتثلم الدينَ، وتثير البلبلةَ والفِتنة، وتفتِن ضعافَ العقول والعلمِ والدّين، وتظهِر الحقَّ في صورةِ الباطل والباطلَ في صورة الحق.
ومن البلاءِ تصدُّرُ أقوامٍ للإفتاءِ أحدُهم بين أهل العلم منكَر أو غَريب، ليس له في مَقام الفتوَى حظٌّ ولا نصيب. غرَّهم سؤالُ من لا علمَ عنده لهم ومسارعةُ أجهلَ منهم إليهم.
يقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: أخبرني رجلٌ أنّه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخَلت عليك؟! فقال: لا، ولكن استُفتِيَ مَن لا عِلم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، وقال: ولَبعضُ من يفتي ها هنا أحقُّ بالسّجن من السُّرَّاق.
وإنَّ من الافتراءِ على الله تعالى والكذِب على شريعتِه و عبادِه ما يفعَله بعضُ من رغِبوا في الأغراضِ الدنيوية العاجلة والأعراضِ الدنيئةِ الزائلة من التسرّع إلى الفُتْيا بغير علم، والقول على الله تعالى بلا حُجّة، والإفتاء بالتشهّي والتلفيق، والأخذِ بالرّخَص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبّع الأقوال الشاذّة المستنِدة إلى أدلّة منسوخةٍ أو ضعيفة، والتي لا يخفَى على من له أدنى بصيرةٍ مفاسدُها الكثيرة وآثارُها السيّئة العظيمة على الإسلام وأهله، والتي لا يقول بها إلا من فَرَغ قلبه من تعظيم الله وإجلاله وتقواه، وعُمِّر بحبّ الدنيا والتقرّب إلى الخلق دون الخالق. يقول بعض السلف: "أشقى الناس من باع آخرتَه بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره".
ألا فليتذكّر هؤلاء يومًا تكعّ فيه الرجال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، ويحصَّل يومئذ ما في الصدور كما يُبعثر ما في القبور، وهناك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدَعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 123]، لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [النحل: 25].
جهلاء سفهاءُ، قصُر في باب العِلم باعُهم، وقلَّ فيه نظرهم واطِّلاعهم، يخوضون في نوازلَ عامّة وقضايا حاسمة وهامّة بلا علم ولا رويَّة، يخبِطون خَبْط عشواء، ويأتون بما يُضادّ الشريعة الغرّاء، ويقولون باسم الإسلامِ ما الإسلامُ منه براء. قال سحنون بن سعيد رحمه الله تعالى: "أجسرُ الناسِ على الفتيا أقلّهم علمًا، يكون عند الرجل البابُ الواحد من العلم فيظنَّ أنّ الحقَّ كلّه فيه"، وقال ابنُ وهب: سمعت مالكًا يقول: "العجلةُ في الفتوى نوعٌ من الجهلِ والخرقِ"، وقال الإمام مالكٌ رحمه الله تعالى:"ما أفتيتُ حتى شهِد لي سبعون أني أَهْلٌ لذلك"، وقال عبد الرحمن بنُ مهدي: كنّا عند مالك فجاءَه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، جئتُك من مسيرةِ ستة أشهر، حمَّلني أهل بلدي مسألةً أسألُك عنها، فسأل الرّجل عن المسألةِ، فقال الإمامُ مالك رحمه الله تعالى: لا أدرِي، فبُهت الرجل وقال: أيّ شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟! قال: تقول لهم: قال مالك: لا أدري. وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يقول: "ليتَّق الله عبدٌ، ولينظر ما يقول وما يتكلَّم به؛ فإنه مسؤول"، وقال بعض السلف: "ليتَّق أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا وحرَّم كذا، فيقول الله له: كذبتَ لم أحلَّ كذا ولم أحرِّم كذا.
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116، 117]، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من البيِّنات والحكمة. أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله حقَّ تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ورضوانه، وحاذِروا أسباب غضبه وسخطه وعذابِه.
أيّها المسلمون، لا يجوز أن يمكَّن من الخوضِ في الفتوَى الجاهِلون بمقاصدِ الشريعةِ ومداركِ الأحكام، المتخرِّصون على معانيها بالظنّ، المتعالمون بلا رُسوخ، الخائِضون في مظانّ الاشتباه بلا تمييز، المقتَحِمون غمارَ الفتوى بلا علم ولا عدّة ولا تأهيل. وفي الأمّة علماءُ متمكِّنون من دَركِ أحكامِ الوقائع، بصيرون بمسالك النّظر والاستنباط، راسِخون في التخريجِ والترجيح. ولا تنبع الأفكارُ الزائغة والعقائد المنحرفة والأقوال الشاذّة إلا بترك مجالسة العلماء والصدور عنهم، وأخذِ العلم والفتوى عن أهل الجهل والهوَى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله قال: ((إنَّ الله لا يقبِض العلم انتزاعًا ينتزِعه من الناس، ولكن يقبِض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسا جهّالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا)) متفق عليه، وعن عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه قال: (ليس عامٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهابُ علمائكم وخياركم، ثم يحدث قومٌ يقيسون الأمور بآرائهم، فيهدم الإسلام ويُثلم).
ومن أعظم سمات أهل الأهواء أنهم لا يجالسون العلماءَ، ولا يأخذون عنهم. قال خلف بن سليمان: "كان الجهم على معبر ترمذ، وكان رجلًا كوفيَّ الأصل فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم".
ومن سمات أهل الأهواء إظهارُ الخصومة والشنآن للعلماء الراسخين في العلم، وتسفيهُ اجتهاداتهم، وتنفيرُ الناس من فتاويهم وكتُبهم. قال الإمام الشاطبيّ رحمه الله تعالى: "وربما ردوا فتاويهم وقبَّحوها في أسماع العامّة؛ لينفِّروا الأمة عن اتّباع السنة وأهلها".
فاتقوا الله أيّها المسلمون، وراعوا حرمةَ هذه الشريعةِ، ولا تقولوا على الله ما لا تعلمون، واسألوا أهلَ الذكر إن كنتم لا تعلمون؛ ترشدوا وتسعَدوا وتفوزوا.
أيّها المسلمون، إن ثمرةَ الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنَه.
وصلّوا وسلّموا على أحمد الهادي خيرِ الورى طرًّا؛ فمن صلّى عليه صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا.
اللّهم صلِّ وسلّم على نبيّنا وسيّدنا محمدٍ، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنة المتبعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بمنك وفضلك وجودِك وإحسانِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين...
[/read]
|