أحوال خسيس الهِمّة
الإنسان المسمى الحيوان الناطق موضوع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي وبين صفات وصفاء العالم العلوي :
فَيَحنُّ ذاك لأرضه بِتَسَفُّلِ ** ويحن ذا لسمائه بتصعُّدِ
قال أحمد بن خضراويه ( القلوب جوالة : فإما أن تجول حول العرش ، وإما أن تجول حول الحش )، وقال بعضهم : ( نزول همة الكسَّاح؛ دلاه في جُبِّ العَذِرَةِ )
وقال ابن القيم رحمه الله - : ( الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج ، وليس ما أُعِدَّ للإستفراخ كمن هيىء للسباق ).
خلق الله للحروب رجالاً ** ورجالاً لقصعةٍ وثريدِ
فإن رفض ذلك الإنسان الإرتقاء إلى عليين ، عشق الظلمة ، ومقت النور ، وأبا إلا أن يهبط بنفسه إلى وحل الشهوات ، فتمرغ فيها،وانحط إلى نزوات الحُمُر ، وسفاسف الأمور ، ونزغات الشياطين ، وتثاقل إلى الأرض ؛ سقط إلى سجين ، وما أدراك ماسجين ، وانحدر دون مرتبة ذات الحوافر، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }
فهم كالأنعام ليس لهم هم إلا تحصيل الشهوات
كالعير ليس له بشيءٍ همَّةٌ ** إلا اقتضام القَضْبِ حول المِذودِ
وهم أضل من الأنعام ، لأنها تبصر منافعها ومضارها ، وتتبع مالكها ، وهم بخلاف ذلك ، قال عطاء : (الأنعام تعرف الله ، والكافر لا يعرفه ).
والله إنك إن أعطيت بطنك سُؤْله ** وفرجَكَ نالا منتهى الذم أجمعا
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : ( إياكم والبِطْنَة في الطعام والشراب ؛ فإنها مفسدة للجسد ، مورثة للسقم ، مكسلة عن الصلاة ).
عريض البِطانِ جديد الخوان**قريب المَراث من المرتعِ
فنصف النهار لكرياسه *** ونصفٌ لمأكله أجمعِ
وسَفَلة الهمم هؤلاء هم الذين أخبر عنهم الصادق المصدوق بقوله : ( وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زَبْرَ له ، الذين هم فيكم تبعاً ، لايبغون أهلاً ولا مالاً ) الحديث ، والزَبْر هو العقل الذي يمنعه مما لاينبغي ، فهو قانع بكونه ذليلاً ، ومسبوقاً ، وتابعاً ، فارُّ من المسئولية وتبعاتها .
ففيهم يقول الشاعر :
شبابٌ قُنَّعٌ لاخير فيهم ** وبُورك في الشباب الطامحينا
وفيهم يقول ابن الجوزي رحمه الله - :
( لايدرون لمَ خُلقوا ، ولا المراد منهم ، وغاية همتهم : حصول بغيتهم من أغراضهم ، ولا يسألون عند نيلها مااجتلبت لهم من ذم ، يبذلون العِرْضَ دون الغرض ، ويؤثرون لذة ساعة ، وإن اجتلبت زمان مرض ، يلبسون عن التجارات ثياب محتال ، في شعار مختال ، ويُلَبِّسون في المعاملات ، ويسترون الحال ، إن كسبوا : فشبهة ، وإن أكلوا : فشهوة ، ينامون الليل وإن كانوا بالنهار نيام بالمعنى ، ولانوم بهذه الصورة ، فإن أصبحوا ، سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير ، وتبصيص كلب ، وافتراس أسد ، وغارة ذئب ، وروغان ثعلب ، ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى ، لا على عدم التقوى ، ذلك مبلغهم من العلم ) ا هـ .
كلما همّ أحدهم أن يسمو إلى المعالي ، ختم الشيطان على قلبه : ( عليك ليل طويل ، فارقد ) ، وكلما سعى في إقالة عثرته ، والارتقاء بهمته ، عاجلته جيوش التسويف والبطالة والتمني ، ودعثرته ، ونادته نفسه الأمارة بالسوء :
( أنت أكبر أم الواقع ؟ ) .
فبقي مستكيناً يرزح تحت وطأة الشهوات ، ويجبن أن يثور على واقعه ، أو أن يفك وثاق همته .
ومن يتهيب صعود الجبال ** يعش أبد الدهر بين الحفر
يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في الذين حُرموا العلم والبصيرة ، والهمة والعزيمة :
( هم الموصوفون بقوله تعالى : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }، وبقوله : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }، وبقوله : {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ }، وبقوله : { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } .
وهذا الصنف شر البرية ، رؤيتهم قذى العيون ، وحُمّى الأرواح ، وسقم القلوب ، يضيقون الديار ، ويغلون الأسعار ، ولايستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار ، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون ، ويعلمون ولكن مايضرهم ولا ينفعهم ، وينطقون ولكن عن الهوى ينطقون ، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون ..) الى اخر كلامه رحمه الله .
أسأل الله تعالى أن يعلي هممنا في طاعته ومن الأعمال مايرضى
كما أسأله الفائدة بما كتبت
مرجعي
كتاب علو الهمة
تأليف محمد أحمد المقدم
آخر تعديل أبو رديد يوم 08-10-2012 في 02:18 PM.
|