قصائد الشوق للبلد الحرام (1) من (3)
وقائلة والدمع سكب مبادر
وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
مقام ولم يسمر بمكة سامر
ولم يتربع واسطا فجنوبه
إلى المنحنى من ذا الأراكة حاضر
فقلت لها والقلب مني كأنما
يلجلجه بين الجناحين طائر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدود العواثر
هذا من أقدم الشعر في التشوق إلى مكة ، قاله مضاض بن عمرو ، يندب حظه وحظ قومه الذين خرجوا من مكة ، وقد وصل إليها متعقبا إبلا له ، فوقف على جبل أبي قبيس وأنشد قصيدة طويلة .
وينسب إلى الصحابي : الجليل بلال بن رباح بيتين كان يتغنى بها عند هجرته إلى المدينة حنينا إلى وطنه مكة ، فيبكي معه الوحش والطير :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بمكة عندي أذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
ويروي الشطر الثاني من البيت الأول بواد ومرة بفخ وحولي أذخر وجليل، وفخ هو الوادي الرئيسي الثاني بمكة . والمقصود بأذخر جبل يقال له أذخر متصل بالحجون من الشمال الشرقي ، ويعرف أحد الأحياء حاليا بريع ذاخر . وإذا كنا قد ابتدرنا بشعر هو من شعر الحنين إلى مكة (( المكان )) ، فإن مكة شاقت الشعراء بالمكانة , فضلت أفئدة من الناس تهوي إليها .
محاسنه هيولي كل جنس
ومغناطيس أفئدة الرجال
للدكتورة سعاد سيد محجوب كتاب (وصف البيت الحرام في الأدب العربي ) صادر من المجتمع الثقافي في أبو ظبي ، خصصت الباب الثالث منه لمثيرات الشوق والحنين إلى الأراضي المقدسة . تناولت الكاتبة حال الواحد من هؤلاء الشعراء بقولها " إذا ومض البرق من الديار الحجازية المقدسة والمرابع النبوية الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، تاقت روحه لزيارتها والتمتع برؤيتها ، وإذا تعذر عليه السفر وأقعدته الظروف أرسل بناظريه مع الركب الرائح وطلب من حاديه أن يبلغ عنه السلام ؛ ففي ذلك بعض الشفاء والسلوى لروحه المضنية "
وقال الأديب السعودي الدكتور ناصر الرشيد في ندوة عقدت في مكة بمناسبة اختيار مكة عاصمة للثقافة الإسلامية لعام ((1426هـ)) : إذا كانت ( نجد) رمز العشق ، فإن (مكة) رمز الروح الوجداني .وذكر الرشيد أنه كتب بحثاً عن الحنين في الشعر العربي إلى مكة .
ولاشك أن شعر الحنين هو شعر الشوق هو من أصدق الشعر عاطفة وانفعالا . وكما تقول د/ سعاد سيد فإن الشاعر عندئذ أبعد ما يكون عن الصنعة والتكلف ، ولا يستطيع مقاومة الشوق إذا حنت روحه ، وتاقت إلى رؤية الأماكن المقدسة ، فلا يهنأ له بال حتى يمتع ناظريه برؤية هذه الديار .
من محفوظاتي في شعر الحنين إلى مكة ، ولم أقف لها على قائل :
هو النفس الصعاد من كبد حرى
إلى أن أرى أم القرى مرة أخرى
وما عذر مطروح بمكة رحله
على غير بوس لايجوع ولا يعرى
يسافر عنها يبتغي بدلا بها
وربك لاعذرا وربك لاعذرا
ويقول التقي الفاسي في ( الذهبية ) وهي قصيدة طويلة :
فيا أين أيام تولت على الحمى
وليل مع العشاق فيه سهرناه
ونحن لجيران المحصب جيرة
ونوفي لهم حسن الوداد ونرعاه ومنها قوله :
فهاتيك أيام الحياة وغيرها
ممات ، فيا ليت النوى ماشهدناه
وياليت عنا أغمض الدهر طرفه
وياليت وقتا للفراق فقدناه
وترجع أيام المحصب من منى
ويبدو ثراه للعيون حصباه
وتسرح فيه العيس بين ثمامة
وتستنشق الأرواح طيب خزاماه
|