اليائية لعبد يغوث.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
فلطالما صبـَّرتُ نفسي، وكظمت جيشانها ولهفتها، وهي تهفو إلى النصوص العربية القديمة،لتقديمها في هذا الموقع المبارك، لنتشارك المتعة، ونطرب أسماعنا، وندرب ذائقتنا، وكلما ابتعدت عنها أبت هذه اللهفة إلاّ أن تُخرج عنقها، ومن هذا المنطلق يسرني أن أقدم لكم قصيدة أثارت إعجابي منذ زمن طويل، أوردها لكم لنتشاطر ألحانها ونعبر آفاقها وجمالياتها.
أما قائلها فمن الشعراء المقلين، وأحد الفرسان المعدودين في الجاهلية، تميز بالكرم والسيادة وهو عبد يغوث بن الحرث بن وقاص من بني الحرث بن كعب، وكان قائدهم في يوم الكُلاب الثاني ضد بني تميم، وقد أُسر في ذلك اليوم وقتل.
أما جو القصيدة فكما ورد في الأغاني، والعقد الفريد، وغيرهما أنه جمعت مذحج من أهل اليمن جموعها وأحلافها في جيش عظيم، وساروا يريدون بني تميم، فوقعت بينهم وقعة يوم الكُلاب الثاني، فهزمت اليمانية، وأسر عبد يغوث، وأراد فداء نفسه فأبت بنو تميم إلاّ أن تقتله بالنعمان بن جساس، ولم يكن عبد يغوث قاتلة، ولكن قالت تميم: قـُتل فارسنا ولم يقتل لكم فارس مذكور، ثم قاموا وشدوا لسانه لئلا يهجوهم، فلما أيقن أنه مقتول، طلب إليهم أن يطلقوا لسانه، ليذم أصحابه وينوح على نفسه، وأن يقتلوه قتلة كريمة، فأجابوه، فسقوه الخمر وقطعوا له عرقاً يقال له الأكحل، وتركوه ينزف حتى مات.
فكانت هذه القصيدة الرائعة الصادقة، التي يخبر قومه ببلائه في الحرب مدافعاً عنهم، معتزاً بفروسيته، وأنه لا يعيبه الوقوع في الأسر بعد القتال المرير، والحرب العوان.
وأقول : لقد طاف الخيال بالشاعر في هذه القصيدة إلى عبق الماضي التليد، فاستحضر ذكريات البطولة والشباب والفروسية والكرم، ثم أفاق من هذا الشرود الحالم ، وأرتد إليه طرفه فإذا به يرنو إلى مرارة واقعه، فيجد نفسه وهو بطل الأمس، أسير العذاب والألم والذل والهوان، بينه وبين الموت سويعات، وقد أصبحت هذه القصيدة اليائية الفاخرة مثالاً حياً لشجو الفؤاد، وتوقيع الأحزان، والبكاء على النفس، فأقتفى أثره الكثير من الشعراء، عازفين على وتره الحزين، والتوجد على النفس، حتى آخر العصر العباسي الثاني.
ولعل ما خلد ذكرها هو صدقها وأنها في وقت إحاطة الموت، قال الجاحظ : ليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد وعبد يغوث ، وذلك أنا إذا قسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية "
وأود لفت الانتباه إلى أن هذه القصيدة تتشابه مع قصيدة مالك بن الريب التميمي التي مطلعها :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ،،،، بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
وذلك لاتحاد الوزن والقافية والروي، وتقارب المعاني، مما يوقع البعض في لبس من ذلك.
وهذه أبيات مختارة من اليائية، برواية المفضل الضبي (المفضليات) :
[poem=font="Arabic Transparent,5,#8b0000,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="none,1," type=0 line=1 align=center use=ex num="0,"]
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا=وما لكما في اللوم خيرٌ ولا ليا
الم تعلما أن الملامة نفعها=قليلٌ وما لومي أخي من شماليا
فيا راكباً إمّا عرضت فبلغن=نداماي من نجران أن لا تلاقيا
أبا كربٍ والايهمين كليهما=وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا
جزى الله قومي بالكُلاب ملامة=صريحهم والآخرين المواليا
ولو شئت نجتني من الخيل نهدة=ترى خلفها الحوَّ الجياد تواليا
ولكنني أحمي ذمارَ أبيكم=وكان الرماح يختطفن المحاميا
أقول وقد شدوا لساني بِنسعة=أمعشر تيمٍ أطلقوا عن لسانيا
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا=فإن أخاكم لم يكن من بوائيا
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيّدا=وإن تطلقوني تحربوني بماليا
أحقا عباد اللّه أن لستُ سامعاً=نشيدَ الرِعاء المعزبين المتاليا
وتضحك مني شيخة عبشميةً=كأن لم تر قبلي أسيراً يمانيا
وقد علمت عرسي مُليكة أنني=أنا الليث معّدواً عليَّ وعاديا
وقد كنت نحار الجزور ومعمل الـ=مطّي وأمضي حيث لا حيّ ماضيا
كأني لم أركب جواداً ولم أقل=لخيلي كـُرّي نـَفِّسِي عن رِجَاليا[/poem]
معاني الكلمات/ نهدة: المرتفعة الخلق ، الحوَّ : الضارب إلى الخضرة،، بنسعة : سير من الجلد ،فأسجحوا : سهلوا ويسروا في أمري ، بوائيا : من باء فلان بفلان إذا قتل به وصار دمه بدمه ،المعزبين : المتنحي بإبله المتاليا : الإبل التي نتج بعضها وبقي بعض ، عبشميةً : نسبة إلى عبد شمس.
آخر تعديل حامد السالمي يوم 08-08-2008 في 08:21 PM.
|