قصص شعبيه/ 3 / كل نصيحة ببعير
يحكى أن أحدهم ضاقت به سبل العيش ، فسئم الحياة وقرر أن يهيم على وجهه في بلاد الله الواسعة ، فترك بيته وأهله وغادر المنطقة
وبعد سنوات من تنقله بين احياء البادية
اتجه نحو الشرق ، وسار طويلاً حتى وصل بعد جهد كبير ومشقة إلى منطقة شرقي الأردن ، ولفى على أحد الأجواد الذي رحب به وأكرم وفادته وبعد إنقضاء أيام الضيافة سأله عن غايته ، فأخبره بها ، فقال له المضيف : ما رأيك أن تعمل عندي على أن أعطيك عن كل عام بعير ، ولما كان صاحبنا بحاجة إلى مكان يأوي إليه ، وإلى عمل يعمل فيه اتفق معه على ذلك .
ومضت السنوات الثلاث وتاقت نفس صاحبنا إلى بلاده وإلى رؤية أهله وأبنائه ، فأخبر صاحب البيت عن نيته في العودة إلى بلده فأعطاه البعران الثلاثة وودعه ، وبعد أن قطع مسافة طويلة في الصحراء القاحلة رأى شيخاً جالساً على قارعة الطريق ، وعندما وصله حيّاه وسأله ماذا يعمل لوحده في هذا المكان الخالي وتحت حر الشمس وهجير الصحراء ، فقال له : أنا أعمل في التجارة ، فعجب الرجل وقال له : وما هي تجارتك يا هذا ، وأين بضاعتك ؟ فقال له : أنا أبيع نصائح ، تبيع نصائح وبكم النصيحة فقال له : كل نصيحة ببعير .
فأطرق الرجل مفكراً في النصيحة وفي ثمنها الباهظ الذي عمل حولاً كاملاً من أجل الحصول عليه ، ولكنه في النهاية قرر أن يشتري نصيحة مهما كان الأمر فقال له : هات لي نصيحة ، وسأعطيك بعيراً ؟
فقال له الشيخ :
(( إذا طلع سهيل لا تأمن للسيل ))
ففكر الرجل في هذه النصيحة وقال: ما لي ولسهيل في هذه الصحراء وماذا تنفعني هذه النصيحة في هذا الوقت بالذات . وعندما وجد أنها لا تنفعه فقال للشيخ : هات لي نصيحة أخرى وسأعطيك بعيراً آخر ، فقال له :
(( أبو عيون بُرْق وأسنان فُرْق لا تأمن له ))
وتأمل صاحبنا هذه النصيحة وأدارها في فكره ولم يجد بها أي فائدة ، ولم يبق معه سوى بعير واحد ، فقال والله لأغامرن حتى النهاية حتى لو ضاع تعب السنوات الثلاث في دقائق معدودة، وقال للشيخ هات النصيحة الثالثة وسأعطيك آخر بعير معي فقال له :
(( نام على الندم ولا تنام على الدم ))
ولم تكن النصيحة الثالثة بأفضل من سابقتيها ، فترك الرجل الشيخ وسار على قدميه لا يملك جملاً ولا غيره ، وسار عدة أيام نسي خلالها النصائح من كثرة التعب وشدة الحر
وفي أحد الأيام أدركه المساء فوصل إلى عربان قد نصبوا خيامهم في قاع واد كبير ، فتعشى عند أحدهم وبات عنده ، وفي الليل وبينما كان ساهراً يتأمل النجوم طلع سهيل ، وعندما رآه الرجل تذكر النصيحة التي قالها له الشيخ ففر مذعوراً وأخبر مضيفه بقصة النصيحة وطلب منه أن يخبر قومه حتى يخرجوا من قاع الواد ، ولكن المضيف سخر منه ومن قلة عقله ولم يكترث له ولم يأبه لكلامه ، فقال والله لقد اشتريت النصيحة ببعير ولن أنام في قاع هذا الوادي ، فقرر أن يبيت على مكان مرتفع ، فأخذ جاعده ونام على مكان مرتفع بجانب الوادي .
وفي أواخر الليل جاء السيل يهدر كالرعد فأخذ البيوت والعربان ، ولم يُبقِ سوى بعض المواشي
وساق الرجل ما تبقى من المواشي وأنعق لها فتبعته وسار في طريقه عدة أيام أخر حتى وصل في أحد الأيام إلى بيت في الصحراء ، فرحب به الرجل وكان نحيفاً خفيف الحركة ، وأخذ يزيد في الترحيب به والتذبذب إليه حتى أوجس منه الرجل خيفة ، فنظر إليه وإذا به " ذو عيون بُرْق وأسنان فُرْق " فقال : آه هذا الذي أوصاني عنه الشيخ نفس المواصفات لا ينقص منها شيئاً .
وفي الليل تظاهر الرجل بأنه يريد أن يبيت خارج البيت قريباً من مواشيه وحلاله ، وأخذ فراشه وجَرَّه في ناحية ، ولكنه وضع حجارة تحت اللحاف ، وانتحى مكاناً غير بعيد يراقب منه حركات مضيفه ، وبعد أن أيقن المضيف أن ضيفه قد نام ،خاصة بعد أن لم يرى حراكاً له ، أخذ يقترب منه على رؤوس أصابعه حتى وصله ولما لم يسمع أية حركة منه تأكد له أنه نائم بالفعل ، فعاد وأخذ سيفه وتقدم منه ببطء ثم هوى عليه بسيفه بضربه شديدة ، ولكن الضيف كان يقف وراءه فقال : لقد اشتريت والله النصيحة ببعير ثم ضربه بسيفه فقتله ، وساق ماشيته وغاب في غياهب الصحراء .
وبعد مسيرة عدة أيام وصل في ساعات الليل الى حَيِّه ، فوجد مضارب قومه على حالها ، فترك ماشيته خارج الحي ، وسار ناحية بيته ورفع الرواق ودخل البيت فوجد زوجته نائمة وبجانبها شاب طويل الشعر ، فاغتاظ لذلك ووضع يده على حسامه وأراد أن يهوى به على رؤوس الأثنين ، وفجأة تذكر النصيحة الثالثة التي تقول " نام على الندم ولا تنام على الدم " ، فبردت أعصابه وهدأ قليلاً فتركهم على حالهم ،وخرج من البيت وعاد إلى أغنامه ونام عندها حتى الصباح ، وبعد شروق الشمس ساق أغنامه واقترب من البيت فعرفه الناس ورحبوا به ، واستقبله أهل بيته وقالوا : والله من زمان يا رجل ، لقد تركتنا منذ فترة طويلة ، انظر كيف كبر خلالها ابنك حتى اصبح رجلاً ، ونظر الرجل الى ابنه وإذا به ذلك الشاب الذي كان ينام بالأمس بجانب زوجته فحمد الله على سلامتهم ، وشكر ربه أن هداه إلى عدم قتلهم وقال بينه وبين نفسه
((والله ان كل نصيحة أحسن من بعير ))
وهكذا فإن النصيحة لا تقدّر بثمن إذا فهمناها وعملنا بها في الوقت المناسب .
تحياتي للجميع
|