عندما تشيخ الذئاب
بسم الله الرحمن الرحيم
مقتطفات بانورامية من رواية جمال ناجي عندما تشيخ الذئاب
أصوات
الشيخ عبد الحميد الجنزير
الفتى بين الرجال سَرعان ما يصبح رجلاً. هكذا يقولون لكن عزمي الوجيه كان رجلاً قبل أن ينضم إلينا. الله على كل شيء قدير.
لما ذهبت الى بيت أبيه، بغية مداواة أمه (جليلة)،وطرد الجني الذي يمتطي كتفيها حسب قولها، كنت في حالة من السرور بسبب انهيار إمبراطورية الكفر التي كانت تسمى الاتحاد السوفياتي، وكانت توابعهُ من الجمهوريات تتفكك وتنفصل عن بعضها تباعاً، كما لو أن لواصقها جفت وتآكلت.
رباح الوجيه
الذي جننني وطلّعني من ثوبي هو ابني عزمي. لأنه لما شعرتُ بالخذلان مع زوجتي الثانية سندس، صار هو يأمرها كأنه زوجُها! وهي تطاوعُه وتستكينُ قدامه مثل الأرنبة. واللهُ على ما أقول شهيد!.
سندس
كان عزمي يمتلك سره الخاص الذي يحول دون كرهه، وأحسست بأنه يريد الهرب من محاولات إغوائي له. أما أنا فقد راقت لي لعبة الرضوخ لأوامره، وانتظار ما سيجود به جسدُه القويُ في قادم الأيام.
جبران
ما قاله الرجال الذين حضروا من جبل الجوفة إلى صيوان العزاء بوفاة شقيقتي جليلة، من أن سندس ابنة عدلي الطيب أغاظتها عند اقترانها برباح الوجيه، فأدت الى موتها كمداً. هذا الكلام ليس أكثر من ثرثرات غير مبنية على قطرة من المنطق، ولو أخذنا بها لجاز لنا أن نتهم الحكومات ومعها الرأسمالية الوطنية وغير الوطنية بقتل أعداد غفيرة من الكادحين الذين يموتون كمداً من حين لآخر، بسبب الجوع وموجات الغلاء والاحتقانات وغير ذلك من الأسباب التي تخلق الكمد.
رباح الوجيه
أصلاً جبران لم يعجبني، لأنه كان يهتم بشكله أكثر من اللزوم، كأنه واحد من أبناء الذوات، ويلبس بدلة غامقة لا يملك غيرها، على الأغلب أنه اشتراها من محلات الثياب المستعملة في شارع الطلياني، وكان يلمّع نعاله كل يوم مثل المكلفين في التجنيد الإجباري أيام زمان، ويحلق ذقنه كل يوم، ومثل النسوان، يقلع الشعر من فوق حاجبيه، ومن فتحتي منخريه، حتى إنه ما كان يربي شاربيه مثل الرجال!.
الشيخ عبد الحميد الجنزير
بعد عام من مغادرته السجن هبطت على جبران ثروة مفاجئة ، فخرج من صفوف الكادحين حسب لغو أتباع ماركس اليهودي، وابتاع واحداً من تلك البيوت الكبيرة في جبل عمان، وتنكر لمن عاش معهم سنوات طويلة في الحي السفلي في جبل الجوفة.
جبران
غالبية أولئك الناس ظلوا يعتقدون حتى وقت قريب بأن جبل عمان مكان أرستقراطي، مع أنه هرِمَ واكتهل، ولم يعد من المناطق المترفة بعد أن ظهرت في العاصمة أحياء جديدة راقية، مثل عبدون والصويفية والرابية وسواها من الأماكن التي يمارس الناس فيها انفتاحاً اجتماعياً مدعماً بالثراء الفاحش. جبل عمان أصبح الآن مكاناً هادئاً وقوراً وخاوياً في بعض بقاعه.
رباح الوجيه
سمعت صياح زوجتي جليلة في قاع الدار، ركضت فلقيتها واقفة ملتصقة بالجدار.عيناها مذعورتان، وساقها اليمنى مجروحة والدم يسيل منها. فكرت، قلت لحالي: على الأغلب أنها هي التي جرحت ساقها، لكن، أنا لا أعلم بالغيب، من الممكن أن يكون كلامها عن وجود الجني صحيحاً، فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). هذا يعني أن الجن موجود.
الشيخ عبد الحميد الجنزير
صحيح أن بعض الظن إثم، لكنني قبضت على نوايا رباح من كلامه، واستبطنتُ كتلة السواد في قلبه ،وشعرتُ بأن تلك الكتلة مغطاة بطبقة كثيفة من قتام روحه.
رباح الوجيه
لعنة الله على الجنزير
غشني بخلطاته لمّا كانت زوجتي الثانية سندس على ذمتي. مع أني وثقت به، وسلمته روحي عندما بدأت شرب خلطته التي قال لي: إنها ستجعلني مثل الحصان. طاوعتُهُ، وقلت لحالي: من يقدر على الجن ، يقدر على تصليب عودي مع النسوان. لكن العكس هو الذي صار معي، فخلطته الكذابة جعلتني أتجنب سندس وأبتعد عنها!.
سندس
عينا الشيخ المكحلتان بثتا في روحي وجسدي أحاسيس مبهمة، فهُما ليستا مجرد عينين بشريتين كتلك التي عهدتها في الرجال، إنما هما مجهريتان تكادان تعريانني من ملابسي، وتدعوانني إلى لملمة نفسي خشية انكشافي أمامه.
سندس
لكن ضعف رباح ازداد، مما أتاح لي فرص إحراجه، فالرجل تغير ولم يعد عنيداً مثلما كان، ونظراته صارت لينة مخذولة، خصوصاً بعد اعترافه لي ونحن في فراشنا، بأن الفضل في نجاح مهمته معي، إنما يعود لي أنا لا هو.
جبران
الوضع الآن اختلف كثيراً، فقد انهالت النسوة على ارتداء الجلابيب والمناديل والخُمر، وانتشر الشباب الملتحون الذين يخطبون في بيوت العزاء والتجمعات، وانتشرت الواعظات في المنازل والوعاظ في المساجد والجمعيات والمراكز وخارجها. فسادَ الذهول في أوساط اليساريين والقوميين والليبراليين، ومعهم الحكومات التي تعاقبت على مبنى مجلس الوزراء في الدوار الرابع.
بكر الطايل
انتظرت عند باب الملهى، قلت في نفسي: هذا الرجل يدفع مئتا دينار في الليلة الواحدة؟ الله أكبر . فتردد التكبير في جوفي، وسمعت نداء الواجب يمخر في مسمعي ويستحثني آن الأوان يا بكر. .
الشيخ عبد الحميد الجنزير.
حاولت تطهير نفس بكر الطايل مما علق بها من قتام حسده لعزمي، قلت له:أنسيتَ أن الحسد كان أول ذنب ارتكب في الأرض يوم حسد ابن آدم أخاه فقتله؟ منذ متى كان إبليس هادياً ومرشداً لك؟ عد إلى كتاب الله يا بكر وحرر روحك من وساوس الشيطان عل الله يرزقك.
بكر الطايل
تأملت هذه الحياة الفانية، وتوصلت إلى أن الموت أكثر يسراً من العيش في سبخة حياة لا سند للمؤمن فيها ولا عضد. حَسَبتُها وفكرت: طالما أنني مشتاق للقاء وجه ربي، فلماذا أتأخر وأهدر الوقت في حياة كلها عذاب؟ تبرمتُ أمام الشيخ الجنزير ، حدثته عما يفعله عزمي الوجيه، وبينت له ما يدور في رأسي، فأغلق عليّ كل المنافذ منهياً حديثه بقوله عد إلى رشدك يا بكر. الجنزير.
أعرف أن مبالغة بكر الطايل في غضبه وسخطه، يرجع إلى نجاح عزمي وتفوقه، لكنني توصلتُ من دون جهد إلى أن بكر لن ينجح في حياته، إذ من المؤكد أنه في قراراته يتمنى النجاح وامتلاك ما لدى عزمي من حنكة وذكاء، فكيف يمكن للنجاح والفطنة أن يستجيبا لمن يحسد الآخرين على امتلاكهم لهما؟ كيف يمكنه عقد السلام مع النجاح إذا كان يحاربه حين يمتلكه الآخرون؟ منذ ذلك الحين أخضعت عقل ذلك الشاب النحيل، بكر الطايل، إلى رقابتي.
جبران
أيام جبل الجوفة ذهبت إلى غير رجعة، ولست آسفاً عليها، إذ لا توجد فلسفة ولا فكرة ولا ديانة تحول دون استمتاع الإنسان بأمواله، أو تطالبه بالتمسك بالفقر إذا استطاع الإفلات من براثنه، لكن الجنزير وعزمي ظلا يشغلان حيزاً كبيرا في تفكيري، وأحسست بأنهما يمتطيان حصاناً واحداً ويتزاحمان على من الذي سيكون في المقدمة!.
العقيد رشيد حميدات
حين وصلنا بيت رباح الوجيه، بعد ساعة من صلاة العشاء، طرقنا بوابته ، فسمعنا نحنحة خشنة من النوع الذي يصدر عن المسنين بهدف الذود عن هيباتهم. فتحت البوابة، فرأيت عينين تلمعان في عتمة الدار، حتى إنني خلت الدار كلها كائناً أسود بعينين شبه آدميتين، وحين سلطت شعاع مصباحي اليدوي نحوه، رأيته متكئا بكلتا يديه على عكازة معقوفة، شعره مغبر بنوع عجيب من الشيب الذي يمتد إلى حاجبيه وشاربيه ولحيته الكثة، كأنه خارج من قبر، أما قدمه فملفوفة بقالب من الجبصين.
سندس
صرت أتأمل الأشياء من حولي، لاحظت أن جدران البيت حزينة، وإسمنت أرضه متشقق، وفناء الدار أشبه بسجن، أما غرفة عزمي فقد أقفلتُها وخبأت مفتاحها بعد أن رتبت ما فيها، وعندما سألني رباح عن سبب إقفال غرفة عزمي الصغيرة قلت: قد يعود.
العقيد رشيد حميدات
أن ما بهرني حقاً، أنني رأيت بعد أسبوع من تلك الحادثة التي كادت تزلزل يقيني بسلامة عيني وعقلي، صورة عزمي الوجيه في واحدة من صحفنا المحلية، وهو يصافح مدير إحدى الجمعيات الخيرية الكبرى، ويسلمه شيكاً بمبلغ ثلاثين ألف دينار، تبرعاً للعائلات المستورة والمعوزين الذين ترعاهم تلك الجمعية! كان مبتسماً في الصورة ومغتبطاً.
الجنزير
أنا الآن في مكة المكرمة، حيث الأرض التي كرّمها الله وأنزل فيها رسالته على نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه. منذ أن دخلت هذه الأرض المباركة وأنا أشعر بأنني سأقابل وجه ربي عما قريب، أنبأني بذلك بدني الذي هزل، وروحي التي صارت تتقافز مبتعدة عني عائدة إلي، كأنها تقوم بتحضيري للقاء ربي. حمدت الله وشكرته على نعمائه ورحمته التي غمرني بها، حين أمهلني وأبقاني حياً لأؤدي مناسك الحج للمرة الأخيرة، وأكَفّر عما اقترفتُه من ذنوب في حياتي التي طالت، وأثوب إلى الله توبة نصوحاً، وأمحو خطاياي متمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله الكريم، مبتعداً متنائياً عما يدنس فطرتي، ويزيغ بصري، ويخطف اليقين من قلبي وصدري.
الجوانب الإبداعية في (عندما تشيخ الذئاب) لـ جمال ناجي
لجأ الكاتب والروائي جمال ناجي في روايته الأخيرة عندما تشيخ الذئاب ، إلى تقنية تعدد الأصوات للشخصيات في ما ترويه عن نفسها وعن الآخرين، ولا ريب أنه برع في تطويع هذه التقنية لصالح العمل وفي شد انتباه القارئ منذ الصفحات الأولى، بخلقه أجواء حميمة وقريبة من المتلقي، سواء على مستوى الشخصيات الملتقطة من ثنايا الواقع المعاش، أو على مستوى الأحداث والمضامين.
وما من شك في أنه استطاع جمع الشخوص ووقائع حياتها في خيط واحد، وسوقها إلى عقدة تراخت إلى تكشف الحقائق، وذلك عبر التشويق المبهر من نقطة البداية وحتى النهاية.
وقد وازن بين الشخصية وأهميتها في البناء الروائي وبين الحدث ومقولات النص وسطوعهما، ولم نلحظ خللا يرجح كفة على أخرى، وإنما هنال اتساق وتعادل لكلا المسألتين في المتن الحكائي، مع تجلية إبداعية لعوالم كل شخصية وتناميها، بالتوازي مع تنامي الوقائع التي تجابهها أو تتورط بها.
ومن الإنصاف أن نثبت هنا أن ناجي شدنا من أهدابنا لمتابعة وملاحظة وملاحقة ما بثه أمامنا من حياة نابضة وضاجة بالألوان وزاخرة بشتى النكهات، وبات واحدنا بقدر استمتاعه وتفاعله وانفعاله بما يقرأ ويرى بعين خياله، تتلبسه حالة الدهشة والمشاركة غير الواعية في ما يتوهج أمامه من مشاهدات وحكايا وأخبار وأحداث سطرها مبدعنا بريشة الفنان المحترف.
إن مكونات العمل الروائي بادية، ومفرداته متوفرة، وثمة حاجة لتناولها تباعا، وهذا لا يتسنى لنا إلا بالدخول في جوانية النص ونشر جوانبه المتعددة.
تعدد الأصوات
لجأ الكاتب إلى تقنية تعدد الأصوات، وهي تقنية معروفة ومطروقة، ويعمد الكاتب إلى استخدامها بغية تقريب المسافة بين النص والواقع، وإيجاد حالة وجدانية تعين على التفاعل مع النص الأدبي، غير أن ما نلحظه أن ثمة صوت لاحدى الشخصيات كان غائبا، وهي شخصية عزمي الوجيه . ومن المؤكد أن اغفال صوته كراوٍ من رواة عدة، جاء مقصودا وعن سابق تصور وتصميم، وأكبر الظن أن حجبه عن المشاركة الصوتية له مدلوله ومبرراته، ذلك أن عزمي الوجيه من الشخصيات الرئيسة والفاعلة، بل يعد من أهم الشخوص في العمل، فعلى يديه تفجرت الكثير من الأحداث، وانبثقت وجهات النظر، واتخذت المواقف، وتشعبت التفاصيل، ببقائه على طول المسار الروائي فاعلا وصانعا ومحركا ومحرضا للأحداث والشخوص، مما جعل الآخرين يروون عنه ويتناوبون في تصوير وتتبع مسارات حياته الثرية، ونمط تفكيره المغاير للآخرين. وقد أفلح جمال ناجي بما ألحقه بهذه التقنية المطروقة من إضافات شكلية ساهمت في إثراء العمل وتميزه.
اللغة
لكل كاتب لغته الخاصة به تماما، كبصمة الإصبع، وليس ثمة لغة لكاتب تتوافق بالمطلق مع لغة كاتب آخر. وقد عوّدنا جمال ناجي على الاستمتاع بلغته ذات النكهة المميزة الجامعة بين العمق والبساطة، النائية عن التقعر وحوشي المفردات، المقتربة من المتداول، الموسومة بالبلاغة مع العناية بمجمل الخطاب وجمله اللغوية.
في روايته هذه لغة تنتمي إلى ما سلف من أعمال، وإن تميزت بجماليات غير مسبوقة، ويبدو الاعتناء باللغة جليا، لكن ليس إلى حد الصنعة والافتعال والاجهاد، أما الاعتناء الأكبر فهو في تطويعه للّغة وجعلها تتناسب ومستوى الشخصية التعليمي والثقافي وانعكاس بيئتها على مجموع مفرداتها وألفاظها، متبعا معها أسلوبا صارما في ما تهجس به وتعبّر عنه من أفكار ومشاعر ورؤى، مما جعل النص مقنعا وواقعيا وأكثر قابلية للتفاعل معه، وأملى وجود مستويات سردية متنوعة داخله، فنحن أمام عمل سمته الرئيسة التكثيف والبعد عن التهويمات والتداعي، والإسراف في المونولوجات المؤدية إلى الإطالة غير المبررة.
المكان
لغايات استيفاء النص الروائي شروطه الفنية لا بد أن يرتكز على المكان كأساس أولي وبدهي للبناء، وهو الأساس الذي توفر في هذه الرواية وأحاطه الكاتب بجل عنايته، وهو أمر شائع ومتوقع، غير أن اللافت وبخلاف أعمال الكاتب الإبداعية السابقة، هو حضور أسماء الأماكن بالدرجة نفسها من القوة التي حضرت فيها الأماكن، فبمقدار ما حضر المكان بقوة وثبات ووضوح، حضرت أسماؤه.
فالأدب الأردني بصورة عامة يعاني غيابا أو تغيبا لأسماء الأماكن، وقليلة هي الأعمال المحتفية أو الزاخرة بأسماء الأماكن، أما كاتبنا فقد أخلص للمكان بأسمائه المتعددة، وثابر على ذلك حتى النهاية، فجبل الجوفة هو الحاضن الرئيس والحقيقي للشخوص والأحداث الأولية التي نمت وتشعبت وتبعثرت وكوّنت بمجملها حياة روائية تستحق أن تُكتب.
ومن الجبل هبط جبران و الشيخ الجنزير و سندس و عزمي ، ليصعدوا إلى أمكنة مبثوثة في أنحاء العاصمة، حيث جبل اللويبدة وتلاع العلي والرابية وجبل عمان، مع التنويع في أسماء الأماكن بحسب ارتياد الأشخاص لها، وحاجتهم لها. وهو أمر محمود يُحسب للكاتب، وينبئ بحجم محبته للمكان وانتمائه له ووفائه لأسمائه التي خلدها عبر هذا العمل الأدبي الرفيع.
الشخصيات
بما أوتي من حذق ودربة، تمكّن ناجي من رسم وتصوير شخوص الرواية كما هي في الواقع، بشر من لحم ودم تنعم أجسادهم بالحركة، ونفوسهم بالمشاعر، ورؤوسهم بالأحلام.
لقد ثبتهم في فلوات أخيلتنا أناسا نابضين بالحياة، مصورا ببراعة أوصافهم الخارجية وتعابير وجوههم وأحوالهم النفسية، كما أن هذه الشخوص أتت لتؤدي دورا، هو دورها في الحياة كما هو في الرواية، وقد تقاسمت أدوار البطولة، وكان لكل منها نصيب في الملهاة والمأساة في آن. وهي شخصيات واقعية تنتمي في معظمها لطبقة اجتماعية متواضعة وفقيرة صادفناها في حياتنا أو خبرناها عبر علاقات العمل أو الجوار أو التعارف.
ومن الناحية الفنية توزعت هذه الشخصيات بين البسيطة والمركبة، إلا أن النسق العام لتلك الشخصيات طغى عليها طابع وضوح المعالم باستثناء شخصية الشيخ الجنزير التي برزت في العمل على جانب من التعقيد وبدت مميزة، وفي هذا المقام ثمة ملاحظات يمكن سوقها حول بعض الشخصيات التي تثير الأسئلة وتبلبل الخاطر وهي:.
الشيخ الجنزير
صور لنا الكاتب الجنزير على أنه رجل متدين يعالج المرضى بالأعشاب والرقى، وعلى يديه تتلمذ ويتتلمذ طلاب العلم الشرعي الذين هم بالمآل تلاميذه الخلص الذين يحترمونه وينفذون أوامره، وبدا أنه رجل ضليع في الأعمال الخيرية التطوعية، ويتميز بالورع وبكثرة الأتباع من الرجال والنساء، فضلا عن مواهبه العقلية والنفسية وقدرته على الاستحواذ، ولا يخلو من جانب غامض.
هذا هو وصف ظاهره، أما باطن الشيخ كما تكشّف لنا، فهو انتهازي وأناني، يوظف الدين في سبيل تحقيق مصالحه الذاتية ورغباته الخاصة، وما تقدم ذكره ممكن الحدوث وقابل للتحقق على أرض الواقع ولا يصدم القارئ أو المطلع لتوفر هذا النموذج في حياتنا. أما الملاحظة المهمة فتتمثل في أن الشيخ الجنزير يروي لنا نحن القراء ما تجيش به نفسه من خواطر وأسرار ورغبات، وما يجول في رأسه من أفكار وأمنيات هي في مجموعها تشكل اعترافات وبوحاً بمثالبه وسقطاته الأخلاقية المخالفة للدين، فهل ثمة شخص يقدم على تعرية ذاته بهذه الصورة القادحة القبيحة والمنفردة أمام الآخرين، وليس ثمة شخص آخر انبرى ليروي عنه؟!.
عزمي الوجيه
القول إن شخصية عزمي الوجيه حمالة تناقضات، لا يجانب الصواب، كما رُسمت ورُسم لها من دور، فقد ابتدأ وهو شاب في مقتبل العمر يواظب على الصلوات وحضور حلقات الشيخ الجنزير التربوية التعليمية، ورافقه في بعض رحلاته إلى الخارج لجمع التبرعات، حيث بدا محافظا ومتدينا ومعتدّا برأيه، وعلى درجة كبيرة من الذكاء والفطنة، فضلا عن قوة حضوره وشخصيته، إلا أن عزمي هذا، ونتيجة إغواء سندس (زوجة أبيه) الكثيف والمتلاحق له حد الاستهداف، أسقطه في براثنها، وأدى إلى ارتكابه رذيلة الزنا المتكرر بها، ويستمر سقوطه المدوي باستيلائه على مبلغ كبير يمثل تبرعات، تمكن من جمعها بناء على تكليف من شيخه الجنزير ، الذي قام بتقاسم المبلغ معه.
يثور في الذهن، ونحن نتابع هذه الشخصية باهتمام ودهشة بالغين أسئلة، منها: إنه إذا ما كان يعد مقصودا وقابلا للحدوث أن يقترف شخص ك عزمي الوجيه فاحشة الزنا، رغم صلابة عود تدينه وشدة محافظته؟ فنجيب بالقول إن الأمر قابل للحدوث ويحدث، غير أن العسير على فهم المتلقي ويصعب تقبله أن يمارس عزمي الوجيه فعل الفاحشة مع امراة هي زوجة أبيه، ولو اقتصر الأمر على فعل واحد ووحيد لكان بمكنتنا تصور الأمر بالقول: لا عصمة إلا لأنبياء الله . أما أن يعتاد الفعل، ويوغل في المثابرة على إتيانه دون لوم أو أسى أو تأنيب ضمير أو طلب صفح أو مغفرة، فهو أمر غير مبرر فنيا، ذلك أن عزمي يتحلل فجأة ودون مقدمات من كل التزام أخلاقي وديني، بل ويذهب إلى أكل السحت بسرقة أموال الآخرين التي يفترض أن تذهب إلى الفقراء والمحتاجبن، كما أنه تنكر لأبيه رباح الوجيه ، وما عاد يزوره أو يتفقد أحواله بعد صعود نجمه وتكاثر الأموال بين يديه، مع أن الواجب الديني يملي عليه صلة أبيه حتى لو كان فظا وقاسيا معه، رغم عناية الكاتب بالشخصية وطرحها منذ البدايات على أنها متماسكة وفريدة البناء أخلاقيا ودينيا.
هناك ملاحظة عامة على الشخصيات، تتجلى في كونها تعاني فقرا في العاطفة وندرة في المشاعر والعلاقات الحميمة، وجسدت مستبسلة لتحقيق رغائبها وحاجاتها المادية دون العناية المرجوة بالجوانب الروحانية والوجدانية والشعورية تجاه الواقع والأشخاص، مما يعني التصاقها بالمادي الملموس وبعدها عن القيم المعنوية الرفيعة، بدليل تهالكها على إشباع غرائزها المادية وشهواتها الجنسية ونزعاتها الاستهلاكية بمنأى عن منظومة قيم تؤسس لوعيها بذاتها وبالحياة والآخرين.
الخطاب
تصنَّف هذه الرواية في إطار الواقعية الاجتماعية، حيث لجأ الراوي إلى إعادة إنتاج الواقع أدبيا عبر نص يعنى بالظواهر الاجتماعية والسياسية الواقعية، يتسم بالإدهاش ويرسم حياة غنية بالأحداث والمواقف والرؤى، وهو نص واقعي معادل للواقع المعاين، يذكّرنا برواية عمارة يعقوبيان لكاتبها علاء الأسواني، باقترابه من جهة المضامين والأجواء العامة من تلك الرواية.
لقد انتخب لنا جمال ناجي نموذجا دينيا قاتما يرمز إلى النزعة الاستقلالية من المتاجرين به تحت غطاء وظيفي شعاراتي في سبيل تحقيق مصالحهم ونزواتهم الضيقة الخاصة، مع الإشارة إلى عدم وضوح معالم هذا النموذج، بمعنى عدم وضوح الخط الفكري والأيديولوجي الذي ينتمي إليه هذا الرجل، حيث ظهر أنه بلا مرجعية وبلا إطار فكري أو تنظيمي معلوم، ومن البديهي عند الأكثرية أن الأفراد الملتزمين دينيا ولهم تأثير في الآخرين من خلال العمل العام والمؤسسي والخيري، بالضرورة ينتمون إلى مرجعية ما أو اطار معين، وهو الأمر الذي لم يتوافر في شخصية الجنزير ، إذ بدا أنه شخصية مستقلة لها توجهاتها وقناعاتها الفكرية والسياسية المستقلة والمتناغمة مع مبادئ المؤسسة الرسمية وتوجهاتها.
وفي مستوى آخر ينقلنا الراوي لمعاينة نموذج السياسي المعارض المناهض للسلطة، الذي يثري فجأة بسبب تركة عقارية يحظى بها وشقيقته جليلة من والدهما المتوفى، فيرقى من الطبقة المتآكلة إلى الطبقة المتعافية، ومن مستوى اجتماعي رث إلى مستوى آخر ينعم بالرفاء والنظافة والاكتفاء. ويقلب الراوي هذه الشخصية على وجوهها أمام ناظرينا، ويستبطن دخيلتها، ويكشف مساحات مستورة، ويضيء عتمات خواطرها وأفكارها ببراعة تُحسب له، إذ نعيش مع شخص جبران الصراعات والتجاذبات الاجتماعية والفكرية والسياسية التي يحياها ويعانيها، وكذلك تبريرات ومسوغات ما يعترضه من مواقف وأحداث، وما يقرره بشأنها من آراء.
وينتهي أمر جبران ، ليس فقط بالانقلاب على طبقته الاجتماعية، وإنما في الانقلاب على خطه الفكري والسياسي النضالي، بالاقتناع أخيرا أن المشاركة في السلطة خير من السكون في هوامش المعارضات غير المجدية على الأمد القصير، حيث تكافئه السلطة بحقيبة وزارية لا تلبث طويلا في يده حتى تنزعها منه هوج الحوادث وعواصف الأقدار.
لقد شن الكاتب غارة نقده العنيف على حواضن الفقر ومرابعه، بكشف آثاره المدمرة والخطيرة على الإنسان ووعيه ومبادئه، وكذلك الغنى والثراء الذي قد يودي بصاحبه إلى التهلكة إن لم يحسن التعامل مع المال ويدرك وظيفته في الحياة، وإن الشره والانسياق وراء غريزة تكثير هذا المال بأي طريقة قد يفتح أمام طالبه أبواب الجحيم التي لا تُغلق إلا بكتم أنفاس أمانيه، وسد آفاق حياته.
ولم يغفل الكاتب التعرض موضوعة الجنس، كما فعل في السياسة والدين، وتعريته للأوضاع والعلاقات الاجتماعية، بجرأة عالية ووتيرة متعاظمة وغير مسبوقة في تجاربه الروائية، وفي هذا السياق نضفي المشروعية على طرح الجنس في العمل الأدبي بسبب واقعيته وغايته الملحّة، كضرورة تشبع الغريزة، وكوظيفة تحفظ النوع في الحياة.
والملاحَظ أن الكاتب سلط الضوء على الرغائب الجنسية المكبوتة التي تم التعبير عنها على نحو مخالف للعقد الاجتماعي والشرعي في بعض المواطن والمواقف، وهي بهذا الوصف تعني كشف الأوضاع المنحرفة للجنس والهواجس الشبقية للشخصيات تجاهه، وهذا ما دفع الكاتب إلى التشديد على الإحاطة بهذا الموضوع الشائك والدخول المباشر إلى مساحاته الملغومة بالمفاهيم والمسيجة بالمحددات والأعراف، بيد أنه آثر خرق هذه المساحات وكشفها بأسلوب وصفي مثير، بل وتحريضي أيضا. وكان من المستحب لو عمد الكاتب إلى تخفيف جرعات الجنس الكبيرة وخفض منسوبه المتصاعد.
المصدر: منبر الرأي ،ثقافة وفنون
|