لغَة هَذيْل - عبد الفتاح المصري
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه دراسة عن لغَة هَذيْل - لعبد الفتاح المصري
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد :13و14 - السنة الرابعة - محرم وربيع الثاني 1404 تشرين الأول "اكتوبر" و كانون الثاني "يناير" 1984
خطة الدِّرَاسَة
أ-العربية ولغات القبائل:
مقدمة معنى اللغة واللهجة وجوه اختلاف لغات القبائل وتصنيفها.
-فائدة معرفة لغات القبائل مصادر هذه اللغات وصعوبات البحث.
ب-لغة هذيل:
-مقاييس اللغويين في تدوين العربية ولغات القبائل.
-هذيل من القبائل المعتمدة في التدوين لفصاحة لغتها.
-أدلة على هذه الفصاحة.
جـ-خصائص في لغة هذيل:
-خصائص صوتية.
-خصائص صرفية.
-خصائص نحوية.
-خصائص دلالية.
د-الخلاصة والخاتمة.
العربية ولغات القبائل
إن وجود العربية الفصحى المثالية التي كان العرب، وما يزالون، يجنحون إليها حين يريدون الأداء اللغوي الرفيع، لم يكن ليمنع وجود لغات، أو لهجات أخر خاصة لأهل هذا القطر أو ذاك، وهذه القبيلة أو تلك، يستعملونها فيتفاهمون بها أكثر من غيرهم، وهذا أمر بات معروفاً لمن يطلع على تاريخ اللغة العربية منذ العصر الجاهليّ إلى اليوم، وقد بدا على نحو واضح حين شرع اللغويون الأقدمون يدونون اللغة، ويقعِّدون لها القواعد، وهو ملاحظ في لغتنا المعاصرة، إذ أن العربي منا يتكلم بلهجته الدارجة في قطره أو مدينته، بل في حيه، ليصرف شؤون حياته المعتادة، فإذا ما أراد أن يكتب أو أن يؤلف أو أن يتكلم إلى عربيّ آخر لا يفهم لهجته، أو أن يصلي، عمد إلى ذلك النمط المثالي في الأداء، وهو الذي اعتدنا أن نسميه العربية الفصيحة أو الفصحى(1)، هذا كله مع فارق واحد بين الماضي والحاضر، هو أن العربي اليوم يأخذ اللغة بالتعلم والدربة، بينما كانت للعربي القديم سليقة وفطرة طبيعية(2).
وقد سمى العلماء الأقدمون هذا الكلام الخاص لقطر أو قبيلة معينة لغة فكان من تعريفات اللغة عندهم (الكلام المصطلح عليه بين كل قبيلة)(3) ونسميه اليوم لهجة، وهي في الاصطلاح العلمي الحديث (مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك فيها جميع أفراد هذه البيئة)(4). فاللغة تشمل عادة عدة لهجات، والعلاقة بين اللغة واللهجة علاقة العام بالخاص، ولكل من اللهجات ما يميزها، وإن اشتركت واللغة الفصحى المثالية بمجموعة من الصفات اللغوية والعادات الكلامية.
وقد تنبه علماؤنا الأقدمون على اختلاف لغات القبائل، أو لهجاتها، وحفظوا لنا فيما ألفوه وجوهاً لهذا الاختلاف متعددة(5)؛ منها الاختلاف في الإمالة والتفخيم نحو قضى ورمى، فبعضهم يميل، وبعضهم يفخم، أو في الحركات نحو نَستعين ونِستعين، أو في الحركة والسكون نحو مَعكم ومعُكم، والاختلاف في الإبدال نحو أولئكَ وأولالك، أو في صورة الجمع نحو أسرى وأسارى، والاختلاف في الإعراب نحو ما زيد قائماً وما زيد قائم، والاختلاف في التضاد نحو ثب وهي اقعد في لغة حمير، واقفز في لغة غيرهم.
وإذا نظرنا إلى وجوه الاختلاف هذه بمنظار علم اللغة الحديث أي اللسانيات استطعنا أن نردها إلى أربعة جوانب تعالج منها اللغة اليوم عادة هي:
1-الجانب الصوتي (أصوات الكلمة) Phonology phonetics.
2-الجانب الصرفي (بنية الكلمة) Morphology.
3-الجانب النحوي (بناء الجملة) Syntax.
4-الجانب الدلالي (معنى الكلمة) Semantics.
أما إذا قسنا لهجة ما إلى اللغة العربية الفصيحة، أمكننا أن نرى فيها ضابطاً عاماً هو أن (اللهجة الواحدة يجب أن تخضع لقاعدة مطردة في الكثرة الغالبة من صيغها)(6).
على أن معرفة لغات القبائل معين كبير على فهم العربية ولغة القرآن الكريم خاصة، فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ يقصد كلمة التخوّف في قوله تعالى: )أو يأخذهم على تخوف((7) فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخوّف التنقُّص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟، فقال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير:
تخوَّف الرحلُ منها تامكاً قرِدا
كما تخوَّف عود النَّبَعة السَّفَنُ
فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم(7). وبهذا وضع عمر أساساً لدرس العربية هو الاتجاه إلى ألسنة القبائل في الشعر الجاهلي وكلام العرب، وروي قريب من هذا عن ابن عباس الذي كان ذا مذهب معروف في تفسير القرآن الكريم بالشعر، وهو القائل: (إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب)(8)، ومن الأمثلة على مذهبه أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: )لا ترجون لله وقاراً((9)، فقال: لا تخشون لله عظمة، واستشهد بقول أبي ذؤيب الهذلي:
إذا لسعته النحل، لم يرج لسعها
وحالفها في بيت نوب عوامل(10)
وقد أخذ العلماء من بعد، يلتمسون في الشعر الجاهلي تفسيراً لبعض الظواهر التالية: غريب القرآن ومجازه وإعجازه وتراكيبه وتفسير معانيه(11).
ومعرفة لغات القبائل تكون عادة بالعودة إلى مصادرها، ومعظم ما في أيدينا منها فيه إشارات إلى اللغات السبع المشهورة بالفصاحة وهي لغات قريش وهذيل وهوازن واليمن وطيئ وثقيف وتميم(12). وقد جمعها علماء اللغة في القرنين الأول والثاني الهجريين، وإذا ما أراد أحدنا البحث في إحدى هذه اللغات كان عليه أن يعود إلى المعجمات وكتب النحو واللغة والقراءات القرآنية، إذ بُثت فيها ظواهر لهجية مختلفة.
والذي يبدو لي أن هناك صعوبات يمكن أن تعترض في سبيل من يريد أن تكون له معرفة دقيقة بظواهر اللهجات العربية القديمة بالاستقصاء والدقة اللذين يتطلبهما عادة البحث العلمي الرصين، وهي صعوبات ناتجة عن الأمور التالية:
1-إن المصادر التي تحدثت عن لغات القبائل خاصة لم تصل إلينا كاملة، مع أنها أساسية في موضوع البحث، وإذا كنا عرفنا مثلاً كتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني وهو كتاب هام عني بأشعار القبائل ولغاتها عناية كبيرة فإننا نفتقد أول كتاب ألف في لغات القبائل، وهو ليونس بن حبيب، ونفتقد كتاباً لعزيز بن الفضل الهذلي في لغة هذيل وكتباً للفراء وأبي عبيدة والأصمعي وغيرهم(13).
2-إذا ما عدنا إلى القرآن الكريم الذي نعرف أنه نزل بلغات القبائل العربية، فلن يسعفنا بإشارات وافية عن الظواهر اللهجية، أو يمدنا بالأمثلة الكافية عليها، ذلك أنه تجنب السمات اللغوية المفرّقة في المحلية كعنعنة تميم وكشكشة قيس، والتي كانت عند العرب أيام نزوله، فالمثل اللغوي المنشود في لغته بعيد عن المحلية (لذا، فليس من الممكن تصوّر أن لغة القرآن الكريم تعكس لهجة الحجاز أو أية لهجة أخرى، بل الأقرب إلى واقع الأمر أن يكون بتلك اللغة الفصيحة المحترمة من الجميع)(14).
3-من الصعب على غير الخبير بلغات القبائل العربية القديمة أن يعرف أن هذه اللغة لهذيل وتلك لتميم والثالثة لطيئ، ما لم ينص على هذا صراحة في المصدر الذي يعود إليه، فإذا كنت أبحث مثلاً في خصائص لغة هذيل، ومررت ببيت في لسان العرب لأبي ذؤيب فلن أعرف، وأنا غير الخبير، ما نطق به أبو ذؤيب في هذا البيت على لغة قبيلته، وما نطق به على لغة العرب أجمعين، ما لم ينص صاحب اللسان على هذا، إذ من الطبيعي أن هناك قدراً لا يحصى من المفردات والتراكيب مشتركاً بين القبائل العربية كلها، وقد لا يكون في هذا البيت شيء من لغة هذيل، وإن كان صاحبه هذلياً.
4-إن البحث في لغة قبيلة ما لن يتسم بالاستقصاء الكامل، ذلك أن ما بين أيدينا من مصادر اللغات، لم يسجّل لنا الظواهر اللهجية القديمة كلها، فاللغويون العرب لم يجمعوا هذه الظواهر في عصر التدوين بهدف بحثها بحثاً شاملاً ينسب إلى كل قبيلة ما لها منها، وإنما قصروا اهتمامهم على تسجيل بعض الظواهر التي استوقفتهم عند بعض القبائل، إذ كان همهم الأول تقرير فصاحة القبيلة أو عدمها، بل إن هذا الهم شغلهم عن كثير من القضايا اللغوية التي يمكن أن تدرس دراسة ميدانية(15)، فالنقص في التسجيل إذن، واضح في أمرين عدد القبائل وعدد الظواهر اللهجية في كل قبيلة.
ثم إن الشواهد التي بين أيدينا على ظاهرة لهجية ما قليلة محدودة، وتكرر في أكثر المصادر، وخاصة شواهد الظواهر المغرقة في المحلية كالعنعنة والفحفحة والاستنطاء(16). وهي لا تعطينا فكرة كاملة عن الصور المتعددة للظاهرة، إذ يمكن أن تكون هناك صور أخر غير التي ذكرت في هذه المصادر، فالنقص يبدو أيضاً في استقصاء حالات الظاهرة اللهجية الواحدة.
وعلى الرغم من الصعوبات التي ذكرت، فإن ما بين أيدينا من مصادر لغات القبائل معين على البحث والدراسة، وسأسعى فيما يلي إلى أن أُلقي نظرة عامة على لغة هذيل لأعرف ببعض من خصائصها. ومن حسن الطالع أن القرون الخالية حفظت لنا مصدراً هاماً في ذلك هو ديوان الهذليين، الديوان الوحيد الذي وصل إلينا من دواوين القبائل، على ما رأى الدكتور ناصر الدين الأسد(17).
|