رد: تأبط شرا والفتى الهذلي..
بارك الله فيك وشكر الله سعيك ووفقك لما يحبه ويرضى قصيدة من عيون الشعر العربي وبطولة وشجاعة منقطعة النظير.
وهذا شرح الأبيات تعميما للفائدة من شرح ديوان حماسة أبي تمام للمرزوقي ،
(1) ولَقَدْ سَرَيْتُ عَلى الظَّلامِ بِمَغْشـمٍ **** جَلْدٍ منَ الفِتْيَانِ غَيْرِ مُثَقَّـلِ
يقال سرى يسري سرىً، وأسرى إسراءً بمعنى، وهو سير الليل.
وعلى الظلام، أي في الظلام موضعه نصبٌ على الظرف. ويقال فعلته ظلاماً وليلاً في مقابلة فعلته نهاراً. ويجوز أن يكون على الظلام في موضع الحال، أي وأنا على الظلام، أي راكبٌ له.
يقول:ولقد سريت ليلاً برجلٍ غشومٍ قوي من الرجال غير منسوبٍ إلى الثقل والكسل في الأمور.
فإن قال قائلٌ: إذا كان السرى لا يكون إلا ليلاً فلم قال على الظلام، ولم جاء في القرآن: " أسرى بعبده ليلاً " و: " فأسر بعبادي ليلاً " ؟ قلت: المراد توسط الليل والدخول في معظمه، تقول: جاء فلانٌ البارحة بليلٍ، أي في معظم ظلمته وتمكن ذلك الوقت من ليلته.
والجلد: الصلب القوي؛ ومنه الجلد من الأرض. وإنما قال مغشمٍ لأنه جعله كالآلة في الغشم، ومفعل بناء لهذا المعنى، والغشم والاعتساف يتقاربان. ويقال غشم الوالي رعيته غشماً وفي كلام بعضهم: أسدٌ حطومٌ خيرٌ من سلطان غشومٍ . ويجوز أن يكون معنى غير مثقل أي كان حسن القبول، محبباً إلى القلوب.
(2) مِمَّنْ حَمَلْنَ بـه وهُـنَّ عَـواَقِـد **** حُبُكَ النِّطَاقِ، فعاش غَيْرَ مُـهَـبَّـلِ
قوله: وهن عواقدٌ حبك حكاية الحال وإن كان ذلك فيما مضى. ومثله قوله تعالى: "وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد . ويروى : "ممن حملن به" أي هو من الحمل الذي حملن به. والضمير في حملن للنساء ولم يجر لهن ذكرٌ، ولكن لما كان المراد مفهوماً جاز إضمارها. ويروى: ممن حملن به ، والمعنى: هذا الفتى من الفتيان الذين حملت أمهاتهم بهم وهن غير مستعدات للفراش ولا واضعات ثياب الحفلة فنشأ محموداً مرضياً، لم يدع عليه بالهبل والثكل . وإنما قيل: ممن حملن به، لأنه رد الضمير على لفظ من، ولو رد على المعنى لقال بهم. وفي القرآن في موضع:" ومنهم من يستمع إليك "، وفي آخر: " ومنهم من يستمعون إليك ". وحكي عن بعضهم: إذا أردت أن تنجب المرأة فأغضبها عند الجماع. وأنشد: تسنمتها غضبى فجاء مسهداً .. وأنفع أولاد الرجال المسهد..
وكذلك يقال في ولد المذعورة: إنه لا يطاق.
والحبك: الطرائق. والنطاق: ما تشد المرأة في حقوها. والرواية: حبك الثياب ، لأن النطاق قد جاء من بعد في صفة أم المغشم فتكرر، ولأن النطاق لا يكون له حبكٌ وطرائق. وواحد الحبك حبيك، ومنه قوله تعالى: "والسماء ذات الحبك". وقال الباهلي: الحبكة والحباك: الإزار أيضاً. وقد احتبكت المرأة.
وذكر بعضهم أن المهبل: المعتوه الذي لا يتماسك فإن صح ذلك فكأنه من الإسراع، يقال جملٌ هبلٌ .
(3) حَمَلَتْ بـه فـي لَـيْلَةٍ مَـزْؤُودَةً **** كَرْهاً، وعَقْدُ نِطاقِها لم يُحْـلَـلِ
الزأد : الذعر، وقد زئد فهو مزؤود. والمعنى حملت الأم بهذا المغشم.ويروى مزؤودةً بالنصب على الحال للمرأة؛ ويروى مزؤودةٍ بالجر، ويجوز فيه وجهان: أحدهما أن تجعله صفةً لليلةٍ، كأنه لما وقع الزؤود والذعر فيها جعله لها، والأكثر في المجاز والاتساع أن ينسب الفعل إلى الوقت فيؤتى به على أنه فاعل، كما قيل: نهاره صائمٌ، وليله قائمٌ.. ومعنى البيت بما تقدم ظاهر.
وقوله:عقد نطاقها لم يحلل ، ابتداء وخبرٌ، والواو للحال. وأظهر التضعيف قي قوله لم يحلل، وهو لغة تميم، ووجه الكلام لم يحل. والنطاق: ما تنتطق به المرأة: تشد به وسطها للعمل. قال الأصمعي: كن في القديم ينتطقن بخيطٍ أو تكةٍ. وذات النطاقين: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه. والمنطقة أخذت من هذا. والمعنى أكرهت ولم تحل نطاقها. وحكي عنها في وصف ابنها قالت فيه: إنه والله شيطان، ما رأيته قط مستثقلاً ولا ضحكاً ولا هم بشيء منذ كان صبياً إلا فعله، ولقد حملت به في ليلةٍ ظلماء وإن نطاقي لمشدود .
(4) فأَتَتْ به حُوش الجَنَانِ مُبَـطَّـنـاً **** سُهُداً إِذا ما نام لَيْلُ الـهَـوْجَـلِ
حوش الفؤاد وحوشي الفؤاد: وحشيه، لحدته وتوقده.ورجلٌ حوشيٌ: لا يخالط الناس. وليلٌ حوشيٌ: مظلم هائلٌ، وكذلك إبلٌ حوشٌ وحوشيةٌ أي وحشيةٌ. وهذا كما يقال: ليلٌ سخامٌ وسخاميٌ: أسود. وقيل: الحوش: بلاد الجن.
مبطناً:خميص البطن . وقوله نام ليل الهوجل ، جعل الفعل لليل، لوقوعه فيه. والمعنى نام الهوجل في ليله. والهوجل: الثقيل الكسلان ذو الغفلة.
يقول: أتت الأم بهذا الولد متيقظاً حذراً، حديد الجنان ذكياً، يسهر إذا نام الثقيل البليد. والسهاد والسهد : السهر. ورجلٌ سهدٌ ومسهدٌ. ويقولون للملدوغ: سهدوه لا يسر فيه السم.
(5) ومُبَرَّأً من كُـلِّ غُـبَّـرِ حَـيْضَةٍ **** ورَضَاعِ مُغْيِلَةٍ وداءٍ مُعْـضِـلِ
غبر الحيض وغبره باقيه قبل الطهر. وكذلك غبر اللبن: باقيه في الضرع . والحيضة والحيض واحدٌ. والغبر يكون جمع غابرٍ أيضاً. ولم يرض بلفظ التبرئة حتى أتى بلفظ الكل معه تأكيداً، كأنه نفى قليل ذلك وكثيره. وأضاف الفساد إلى المرضعة لأنه أراد الفساد الذي يكون من قبلها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبةٍ. ويروى مبرأً بالنصب والجر، فإذا نصبته فإنه ينعطف على غير مهبل ، كأنه قال: شب في هاتين الحالتين. وإذا جررته ينعطف على قوله جلدٍ من الفتيان كأنه بمغشمٍ جلدٍ ومبرإ. والمعنى أن الأم حملت به وهي طاهرٌ ليس بها بقية حيضٍ، ووضعته ولا داء به استصحبه من بطنها فلا يقبل علاجاً، لأن داء البطن لا يفارق. ولم ترضعه أمه غيلاً، وهي أن تسقيه وهي حبلى بعد ذلك. ويروى عن أم تأبط شراً قالت: ما وضعته يتناً، ولا أرضعته غيلاً، ولا أبته مئقاً، ولا رأيت بنفسي دماً. ولقد حملت به في ليلةٍ مظلمة وتحت رأسي سرجٌ،وعلى أبيه درعٌ . وإنما تريد بهذا الكلام الآخر ما تقول العرب من أن المرأة إذا أكرهت على الوطء، أو وطئت مذعورة، أنجبت وأذكرت. الداء المعضل: الذي لا دواء له كأنه أعضل الأطباء وأعياهم،وأصل العضل المنع، ومنه عضلت المرأة إذا نشب ولدها في بطنها فلم يخرج. وعضلتها: منعتها من التزويج ظلماً.
(6) فإِذا نَظَرْتَ إِلى أَسِـرَّةِ وَجْـهِـهِ **** بَرَقَتْ كَبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّـلِ
الخطوط التي في الجبهة الأغلب عليها سرارٌ ويجمع على الأسرة، والتي في الكف الأغلب عليها سررٌ وسرٌ وبجمع على الأسرار. وقد قيل: الأسرة: الطرائق. يقول: إذا نظرت في وجه هذا الرجل رأيت أسارير وجهه تبرق وتشرق إشراق السحاب المتشقق بالبرق. يصفه بحسن البشر وتطلق الوجه في كل حال. والعارض: ما يعرض في جانبٍ من السماء من السحاب. وعلى ذلك العارض في الأسنان، ولهذا قيل العارضان لما يبدو من جانبيها. ويقال: تهلل الرجل فرحاً، واهتل، إذا افتر عن أسنانه في التبسم.
(7) وإِذا نَبَذْتَ له الحَـصَـاةَ رَأيْتَـه **** يَنْزُو لوَقْعَتِهَا طُـمُـورَ الأَخْـيَلِ
يقال: نبذت الشيء من يدي، إذا طرحته، وتوسعوا فيه فقيل صبيٌ منبوذٌ، ونابذت فلاناً، إذا فارقته عن قلىً. والحصى: صغار الحجارة . والشاعر إنما يحكي ما رآه منه؛ وذلك أن أبا كبيرٍ ذكر أنه كان أراد أن يغتاله، وكان يطلب منه فرصةً ينتهزها في نومهأو غفلته مع أنه كان لا يجترئ عليه، فكان يسبر أحواله ليتمكن من مراده فيه. والمعنى إذا رميته بحصاة وهو نائمٌ وجدته ينتبه انتباه من سمع بوقعتها هدةً عظيمة، فيطمر طمور الأخيل، وهو الشقراق. وانتصاب طمور بما دل عليه قوله فزعاً لوقعتها ، كأنه "رأيته " يطمر طموره؛ لأن الخائف المتيقظ يفعل ذلك. والطمور: الوثب؛ ومنه قيل فرسٌ طمرٌ، أي وثابٌ. وذكر أبو العباس أن الطمر في وصف الفرس هو المشرف،ومنه قيل للموضع العالي: طمار. وفزعاً انتصابه على الحال، وجواب إذا قوله رأيته. وقال بعضهم: الأخيل: الشاهين. ومنه قيل تخيل الرجل، إذا جبن عند القتال فلم يتثبت. والتخيل: المضي والسرعة والتلون.
(8) وإِذا رَمَيْتَ به الفِـجَـاجَ رَأَيْتَـهُ **** يَهْوى مَخَارِمَها هُـوِيَّ الأَجْـدَلِ
قال الخليل: الفج: الطريق الواسع من قبل جبلٍ ونحوه، والجميع الفجاج. خارمها . والمخارم: جمع المخرم؛ وهو منقطع أنف الجبل. والخرم: أنف الجبل، وجمعه خرومٌ. والشاعر يحكي في هذا أيضاً عنه ما رآه منه عند استصحابه له، فيقول: إذا وجهته في طرق الجبل رأيته يقصد عاليها قصد الصقر. والهوي بضم الهاء، هو القصد إلى أعلى، وبفتح الهاء القصد إلى أسفل. على ذلك قوله: هوي الدلو أسلمه الرشاء..
(9) وإِذا يَهُبُّ منَ الـمَـنَـامِ رَأَيْتَـهُ **** كرُتُوب كَعْبِ الساقِ لَيْسَ بِزُمَّلِ
أصل هب تحرك واضطرب، ثم قيل هب من نومه هباً ، وهبت الريح هبوباً، وهبت الناقة في سيرها هباباً، وهب التيس هبيباً. وأهببت السيف: هززته. يقول: إذا استيقظ هذا الرجل من منامه انتصب في مضجعه سريعاً كانتصاب كعب الساق في الساق،وهو ليس بضعيف. وإنمايعني شهامته وتشمره في تلك الحالة. وكعب الساق منتصبٌ أبداً في موضعه، فلذلك شبهه به. والراتب: القائم، ومنه المراتب. وتحقيق الكلام: وإذا يهب رأيت رتوبه كرتوب كعب الساق، لكنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا التشبيه يجري مجرى التصوير. والزمل والزمال والزميلة، كله الضعيف، واشتقاقه من التلفف كأنه متساقطٌ لا متشمرٌ متجردٌ.
(10) ما إِنْ يَمَسُّ الأَرْضَ إِلاَّ مَنْـكِـبٌ **** منه، وحَرْفُ الساقِ طَيَّ المِحْمَلِ
إن، زيد لتوكيد النفي، ويبطل عمل ما بانضمامه إليه في لغة من يعمله.وانتصب طيّ على المصدر مما دل عليه ما قبله، لأنه لما قال، ما يمس الأرض منه إذا نام إلا منكبه وحرف الساق، علم منه أن الرجل مطويٌ غير سمينٍ، وهضيم الكشح غير ثقيل. والمعنى أنه إذا نام لا يتبسط على الأرض ولا يتمكن منها بأعضائه كلها، فعل من يرخيه نومه ويتمكن منه، حتى لا يكاد يتجمع ويتشمر عند الانتباه إلا بعد مزاولةٍ وتهيؤٍ يعمله في كل عضو.
(11) صَعْبُ الكَريهة لا يُنَال جَنَـابُـه **** ماَِضِي العَزِيمة كالحُسَامِ المِقْصَلِ
الصعب : نقيض السهل والمذلل وصَعُبَ الشيء صُعُوبة، أي: أشتدّ. والكريهة : هي الشدة في الحرب ، ونال فعلٌ للأخذ والاستحواذ ، ونال جنابه : أي تمكن منه وهزمه وأوقع به.
أمضى يمضي فهو ماضي العزيمة : أي أنفذ أمراً قد عقد قلبه عليه أو قد تيقنه،
وحَسَمْتُ الأمْرَ أي: قَطعتُه حتى لم يُظفَر منه بشيء، ومنه سمِّي السَّيفُ حُساماً لأنّه يحسِمُ العدوَّ عَمَا يُريد، أي يمنَعُه. والمِصقَلةُ: التي يصقل بها الصَّيْقَل سيفه ومنها المصقل على وزن مفعل .
(12) يُعْطي الصِّحابَ إِذا تَكُونُ كَرِيهَةٌ **** وإِذا هُمُ نَزَلُوا فمَـأْوَى الـعُـيَّلِ
يعطي : العطاء هو البذل والهبة ولايجد الشجاع يوم الكريهة إلاّ نفسه ليجود بها حقناً لدماء صحابه، يقال: أَوَيْتُ إِلى المنزل وأَوَيْتُ غيري وأَوَّيْتُ الرجلَ كآوَيْته والمَأْوى والمَأْواة: المكانُ، وهو المأْوِي. قال الجوهري: المَأْوَى كل مكان يأْوي إِليه شيء ليلاً أَونهاراً.
عالَ يَعِيلُ عَيْلاً وعَيْلة وعُيولاً وعِيُولاً ومَعِيلاً: افتقر. والعيِّلُ: الفقير، وكذلك العائل؛ قال الله تعالى: وَوَجَدَك عائلاً فأَغْنى. وفي الحديث: إِن الله يُبْغِضُ العائلَ المُخْتال.
إذن فصدر البيت يتحدث عن شجاعة الفتى وعجزه يشير إلى الكرم والسخاء.
تحياتي وبالغ تقديري ،،،
|