"أبو جنيـّة"

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،

صديقي العزيز ؛ متعدد المواهب ، ومتنوع الألقاب ، فما بين ألقاب الدهاء المحض، والكُنى الحصرية ! ، أتاه لقب جديد ، على طبق من ذهب ؛ هو "أبو جنيـّة" بتشديد الياء ، وهذا آخر لقب حازه باقتدار وعلى نطاق مدرسته المتوسطة ؛ تلك المدرسة الغنية عن التعريف والمشهور اسمها في الموروث الشعبي ، فكم تغنى بها المتغنون ، وترنم باسمها المترنمون.
أعود لصديقي الذي اعترته لحظة أريحيّة في العمل ؛ قلما يسخو بمثلها ، ولا تأتي إلا بعد جولة بيروقراطية مضنية تتخللها "حبة خَشم ، وتكفى ، وطالبينك ": ) وواكبت هذه الأريحية المفاجئة ، رغبة عارمة لصديقي في إضفاء مزيد من الأضواء على صورته بالمدرسة وتلميعها، فطلب من المدير مفتاح المدرسة ليعمل بها مساءا لليلة واحدة ، فوافق المدير فرحا مستبشرا ، وأتاه الوكيل في المساء مساعدا له ومشجعا ، حتى انقضى المغرب ، وأتى العشاء وغادر الوكيل المدرسة بعد العشاء ، ثم استغرق صديقي في العمل ، ولم يلبث أن سمع أصواتا وجلبة في فناء المدرسة وأقدام تصعد درجات المدرسة متوثبة ، فهب مسرعا إلى الباب ظانا أن الوكيل نسيه مفتوحا عند مغادرته ، وأن هؤلاء إنما هم شباب الحي العابثون أتتهم فرصة العبث على طبق من ذهب ، وهم الناقمون على المدرسة ، الحانقون على المعلمين .. ، فلما وصل الفناء وجد المكان خلاءاً ، والباب مقفلاً ، فتذكر ما كان يسمعه من أحاديث لقدامى المعلمين ، عن الجن والعفاريت التي اتخذت المدرسة موطنا ، ومرتعا ومسرحا ، وما يصدرونه من أصوات وضجيج .. ، لكنه تمالك نفسه وقرأ المعوذتين ، وأردفها بآية الكرسي ، وعلم أنه في حصن حصين من رب العالمين ، ثم ما لبثت الأصوات أن عادت ، وبدأت في الاقتراب شيئا فشيئا ، وقد كان دخولهم إلى المدرسة فوجا واحدا وكأنه على موعد طائرة، وأن ليلهم في مبتداه ، فهذا صوت إسعاف ، وهذا صوت سيارة الشرطة وميكرفونها يصدر منه كلام بصوت عال غير مفهوم ، وهذه أم تخاصم ثلاثة من أبنائها ، وقد أعيتها الحيل في ضبطهم كما يبدو من صوتها ، وهذه أبواب تضرب ، وهذه أرجل تذرع الدرج جيئة وذهابا ، وهناك هزات ورجفات تأتي عبر السقف ، وظل المعلم صامدا حتى الواحدة ليلا موعد إنتهاء مهمته ، فغادر المدرسة وأوصد أبوابها عن الإنس.
وفي اليوم التالي روى قصته لزملائه المعلمين فتعجبوا ، وأطلقوا عليه اللقب الجديد بمباركة كافة المعلمين ، وأضافوا قصصا شيقة ، فكان كل يروى ما سمعه أو عاينه بنفسه ، وقال حارس المدرسة العم فلان: لقد دخل إلى المدرسة شيخ كبير ، يتوكأ على عصاه ، متجها إلى المطبخ فتبعته ، فلما دخلت عليه ، غادر مسرعا إلى دورة المياه ، فذهبت خلفه فلم أجد أحداً.
الطريف أن هذه المدرسة تتلمذت فيها قديما ، ولم ألحظ بها شيئا مريبا ، فلربما أن سكانها حديثوا عهد بالسكنى بها، ولربما توسعوا من المنزل المجاور للمدرسة وهو عبارة عن فيلا قديمة مهجورة فتزايدت أعدادهم ورغبوا في التوسع واستثمار المبنى المدرسي المجاور لهم، ويبدو أيضا أن إدارة التعديات لدى معشر الجن قد نخرها الفساد الإداري ولا تحرك ساكنا، بل تقوم بتطبيق المنح على المدارس ، وما هي عن أمانة جدة ـ السابقة ـ ببعيد :) .
وقد قصصت هذه القصة على أحد مديري المدرسة السابقين فتبسم ـ أبو زايد ـ وقال لقد سمعت الكثير من ذلك وخاصة من الفراش القديم للمدرسة الذي كان يقول يا أستاذ "العبيد طالعين نازلين مع الدرج والطبول والطرب و و .. وكنت لا أعير حديثه اهتماماً.

فائدة لغوية : كل شيء سُتر عنك فقد جُن عليك ، والاشتقاقات في هذا الباب والأمثلة جميلة وتدل على غزارة اللغة واستيعابها ، فالجنين سمي كذلك لاستتاره في بطن أمه فهو جنين طالما كان في بطن أمه فإذا وضعته أصبح وليداً ، وجن عليه الليل إذا ستره بظلامه ، واستجن فلان إذ استتر ، ونسمع أيضا لدينا كلمة المجنة ونقصد بها المقبرة ، حيث إنها تستر الموتى والمجنون مختفي العقل.

ولكم تحياتي الطيبة ،،،

أخوكم / أبو خالد.