معلومات
العضو |
|
إحصائية
العضو |
|
اخر
مواضيعي |
|
|
رد: فكرة برج المليون رد .............!!!
د. منير الشواف
العلمنة والعلمانية بين الفلسفة النظرية والواقع العملي
ـ يخطئ من يظن أن العلمانية كما هي عند فلاسفتها الأوربيين قامت على نكران أن للكون والإنسان والحياة خالق أوجدها من عدم , فهي تؤمن بوجود خالق وراء الطبيعة ولكن هذا الموجد نظم الكون في أحسن حال , لكنه لم ينظم العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية , وترك حل هذه المشاكل للعقل البشري حسب الزمان والمكان .
ـ بعد صراع مرير ومذابح يندى لها الجبين بين مؤيدي الحركة ( اللوثرية ) وبين الكنيسة الكاثوليكية المدعمة بأباطرة وملوك أوربا بدأ من منتصف القرن الخامس عشر , وبعد الفرز المذهبي على أثر الثورة الفرنسية عام 1789 استقرت أحوال أوربا بأن أصبحت الكلمة العليا للبروتستانت في بريطانيا وألمانيا وحلفائهم , واستقرار المذهب الكاثوليكي في فرنسا وايطاليا وحلفائهم .
ـ توصل فلاسفة أوربا ومنظريها إلـى الفصل بين الديـن والحياة , حسـب المقولة المنسوبة للإنجيل المقدس ( أعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) وتم الحجر على بابا الكاثوليك في حي من أحياء روما أسموه ( دولة الفاتيكان ) , ونهضت أوربا نهضتها العلمية التي ما تزال آثارها تسيطر على الفكر العالمي حتى الآن . بشعاراتها النظرية ( حرية , عدالة , مساواة ) للجميع أمام القانون بغض النظر عن أديانهم وعقائدهم ومذاهبهم , لتكون المواطنة هي الأساس في هذه الدول , وطبعاً انتقل هذا الفكر إلى العالم الجديد في الأمريكتين بعد اكتشافها عام 1492 , وتقنين في الدستور الأمريكي الذي وضعه جورج واشنطن بعد تأسيس الولايات المتحدة واستقلالها عن البريطانيين والفرنسيين والأسبان والبرتغاليين .وزاد على ذلك أن الثورة البلشفية عام 1917 رفضت الاعتراف بالأديان واعتبرتها أفيون الشعوب وأنكرت بنظريتها المادية الديالكتيكية والتاريخية وجود الخالق , ونسفت الحل الوسط الذي اعتمدته الشعوب الأوروبية قبلها , وأنكرت وجود خالق الكون والإنسان والحياة .
والسؤال المطروح الآن هل العلمانية كانت فكر فلسفي نظري , أم واقع حقيقي تمثله الناس في حياتهم وطبقوه كمبادئ عملية في مجتمعاتهم .
للإجابة على هذا السؤال لا أريد أن ادخل بالفلسفة الخيالية والسفسطائية , بل أريد أن أعالج الموضوع حسب الواقع العملي الذي مارسته هذه الشعوب من خلال الحقائق التي لا يمكن التنازع حولها نظراً لثبوتها واقعاً وسلوكاً . وسوف اكتفي بأمثلة بسيطة ولكنها هامة ابتداءً من حركة ( تضامن ) التي قادها رئيس نقابات العمال السيد ( فاليسا ) في بولندا وحتى الآن .
ـ قادت الكنيسـة الحركات العمالية فـي بولندا ضد حلف وارسو عندما انتخب لأول مرة بابا في الفاتيكان من ( بولندا الشيوعية ) واستطاعت هذه الحركة جمع الملايين للقيام بعصيان مدنـي ضد الحكام الشيوعيين في بولندا , وهذا كان البداية لهدم سور برلين عام 1989 , والى توحيد الألمانيين ( غربية وشرقية ) الذي أعقبه انهيار الاتحاد السوفيتي الماركسي , وإلى تفكيكه , وخرجت الصلبان الأرثوذكسية مقتلعة أصنام لينين أينما كانت , ومكتفية بترك قبر ( لينين ) كمتحف سياحي , تستفيد منه الدولة لدعم ثروتها القومية . ولم يصل يلسنين أوبوتين إلى السلطة إلا بعد تعميده في الكنيسة الأرثوذكسية العظمى في موسكو تحت الصلبان الضخمة التي حملها البطاركة وبمباركتهم .
وتفكك الاتحاد السوفيتي , هذه الدولة العظمى , وعاد كل إلى ما يعتقد , عندما أنزل جورباتشوف عصاه , وقُصت أجنحة الاتحاد السوفيتي , وعادت الجمهوريات الإسلامية إلى دينها الإسلامي كشعوب , ولم يبقى إلا حكام هذه الجمهوريات بفضل الدعم العسكري الروسي المباشر لهم في السلطة .
ـ تفككت يوغوسلافيا , هذه الدولة التي صنعها النظام العالمي بقيادة ( تيتو على أثر الحرب العالمية الثانية ) وأصبحت دويلات على أساس ديني ( صربيا ) ومن والاها للأرثوذكس و( كرواتيا ) للكاثوليك و ( البوسنة ) للمسلمين , وقامت بينهم المذابح البشعة على أساس ديني , وكأن هذه الشعوب لم تدرس لا أفكار ماركس ولا أفكار ( سبينوزا ) حتى ولا أفكار ( هوبز ) وطريقته الأخلاقية في التعامل الإنساني . فكانت مذابح يندى لها الجبين على أساس مذهبي ديني , قتلت الأطفال واغتصبت النساء حتى ولو كانوا تحت علم الأمم المتحدة , وكان قادة المذابح دكاترة وبروفسورات في مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية والقانونية والاجتماعية .
ـ أما المملكة المتحدة فحدث ولا حرج عن مذابح الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا في القرن العشرين , ويكفي المشاهد اشمئزازاً عندما يرى مسيرة ( الأورانج ) في كل سنة يتقدمها العلماء والمفكرون السياسيون من البروتستانت ليذكروا الكاثوليك بالنصر الذي حققه البروتستانت عليهم وفي المذابح التي أوقعوها بهم .
ـ وطلَّت علينا الولايات المتحدة في عهد بوش الثاني , بما هو ينافي كل قواعد العلمانية , حيث هذا الرئيس تأتيه إلهامات , ويأتيه وحي من السماء , ليدفعه باتجاه الأعمال السياسية والعسكرية من اجل سيطرة قيم الكنيسة الإنجيلية على كل قيم العالم . فلقد أعلن حروباً صليبية لا تتوقف حتى تسيطر إلهاماته على العالم وليدحر الشر , المتمثل بالمسلمين , ويسيطر الخير المتمثل في البروتستانتية الإنجيلية , التي أوصلته إلى الحكم ,بفضل أتباعها البالغ عددهم حسب إحصاءات رسمية / 50 / مليون مواطن يتبعون هذه الكنيسة المدعمة بمئات الإذاعات المرئية والمسموعة وبقيادة قُسس فتحت لهم خزائن أصحاب القرار السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة .
ـ أين العلمانية التي يدعيها العالم الغربي ومن ورائه الأمم المتحدة عندما ساعدت وأيدت وشرعت قيام دولة أسموها ( إسرائيل ) على ارض يقطنها شعب جزء من العالم العربي والإسلامي , باسم الدين اليهودي , وباسم ارث بني إسرائيل , فذبحوا أهلها لا لسبب إلا لأنهم يدينون بدين غير اليهودية لتكون دولة إسرائيل بعرق نقي وحيد هو عرق بني إسرائيل .
ـ أما منطقتنا منطقة الشرق الأوسط الكبير أو الجديد , فأين العلمانية التي علمتنا إياها مناهجنا الدراسية ومفكرونا القوميون والوطنيون .
هل أبدأ من لبنان البلد الذي كان يعتبر نافذة العلمانية الغربية على الشرق الأوسط , فبعد أكثر من ثلاثون سنة من الحروب المذهبية والطائفية , وللأسف بقيادة أساتذة في العلمانية كلهم يحملون درجات الدكتوراة الحقيقية أو الفخرية , سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين , خضعوا لإرادات طوائفهم ويسيرون بطريق ( الكونتونات ) الدينية بل المذهبية ، فالمسيحيون تحزبوا سياسياً بانحيازهم إلى مذاهبهم كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس , والمسلمون كل عاد إلى مرجعيته السنية أو الشيعية بغض النظر عن الصواب والخطأ وعما تعلموه في مدرسة العلمانية , والدروز التفوا حول قياداتهم الجنبلاطية أو الارسلانية , إنه نموذج فسيفسائي مخجل قضى بشكل واضح على كل ما تعلمه شعب لبنان على أساس العلمانية , ليثبت إنها أكاذيب في الكتب وليست حقائق على الأرض .
ـ أما العراق فحدث ولا حرج عن انهيار العلمانية , وثبوت بطلانها , وذلك بانتماء الناس إلى مذاهبهم فقط , بل إلى عشائرهم وقبائلهم , فأين العلمانية عندما تجد كل يوم في شوارع بغداد أكثر من / 50 / جثة قتلت لا لسبب إلا لأنها تنتمي إلى مذهب ديني ربما لا تفهمه ولا تعلم عنه الكثير . سوى إدراكها أن الانتماء الطائفي والمذهبي والديني أصبح أمراً ضرورياً لها حتى لا تباد بشكل جماعي , وإن قتلت بشكل إفرادي .
إن ما ذكر غيض من فيض لاستدل به على خطأ قاتل يعتمد عليه مفكرونا وهو , إن العلمانية هي التي أنهضت أوربا , ولأدلل عن أن هناك فرق بين العلمانية والعلم , وان الذي انهض أوربا وتابعتها أمريكا هو الطريقة العلمية في التفكير , أي دراسة الواقع عن طريق ( الملاحظة والتجربة والاستنتاج ) هذه هي الطريقة التي أوصلت العالم الغربي ليكون سيد العالم في الوقت الحاضر , حيث سلك الطريقة التجريبية والتحليلية في دراسة الواقع , فوصل إلى ما هو عليه من علوم أدت إلى سيطرته على مرافق الدنيا , عندما أطلق الحكام مواهب الشعوب للبحث بالمادة بعمق واستناره للوصول إلى تطويعها بموجب القوانين التي خلقها الله عليها , فتوصلوا إلى فهم القوانين التي تسير حركة المادة واكتشفوها وأبدعوا بها , فوصلوا إلى نهضة مادية مكنتهم من قيادة العالم , ولكنهم لم يصلوا إلى نهضة فكرية ومعنوية روحية لأنهم لم يربطوا القوانين المكتشفة بمن هو نظم هذه القوانين وهو الله سبحانه وتعالى .
والذي يؤكد على وجهة نظري أن اليابان قد وصلت إلى أرقى العلوم وأسهلها وأفضلها وأرخصها بدون العلمانية المزعومة , بل وصلت بالطريقة العلمية التي مارسها المواطن , علماً أنه لا أثر للدين في علاقات الشعب الياباني وإن كان عندهم تقاليد موروثة وآداب اجتماعية .
إن العلمانية كما وصفها مفكروها في الغرب لا اثر حقيقي لها على حياة المواطن عندهم , فهي لازمة فقط لمؤسساتهم بالقدر التي تمكن الدولة المملوكة لأهل الفعاليات الاقتصادية ( الرأسماليون ) من المحافظة على القيم الرأسمالية التي تمكن أصحاب الفعاليات الاقتصادية من السيطرة على مرافق البلاد داخلياً والعالم خارجياً , ولهذا تنتهك الدولة عندهم حقوق الإنسان بمجرد أن يخالف قيم الرأسمالية بغض النظر عن العلمانية التي قالها المفكرون الأسبقون . فتعلن حالة الطوارئ وتنهتك كرامات الناس وحتى تمنع مرأة مسلمة من الحجاب في فرنسا لمخالفتها لقيم المجتمع , باعتبار ممارستها لفكر غير حضاري بموجب قيمهم .
إن الواقع العملي يثبت بان العلمانية أكذوبة كبرى , ربما أسسها مفكرون مخلصون مقتنعون بها , لكن الواقع الفعلي اثبت استحالة وجودها حقيقة في حياة الشعوب , فتم في بلاد العـرب والمسلمون الخلط بين العلمانية والعلم , حيث ثبت أن العلمانية نظرية خيالية لا تثبت أمام الواقع , وإن أي ظروف استثنائية يعود الناس جميعهم إلى عقائدهم , فالعقائد تختلف فيها الناس , وهذا حقهم في الإقرار أو الإنكار , وليس الاختلاف في العقائد موجب للكره والبغضاء بل لكل قيمة وموازينه , فالاختلاف رحمة وحضارة , والكره والبغض عداء , والعلم مشاع للجميع وهو مجموعة القواعد والقوانين التي تخدم الفكر الصحيح ليكون على أساسه النهضة الصحيحة التي تملأ العقل قناعة والقلب طمأنينة , وهذا ما يفتقده الغرب , ومن سار على حذوه , فقد امتلكوا الارتفاع المادي ولكنهم لم يمتلكوا الارتفاع الفكري الذي يؤدي بهم إلى سعادة الدنيا والآخرة .
اختم مقالي بالتساؤل أين العلمانية , عندما يجري توزيع الأسلحة النووية في العالم على أساس ديني فعلي , فنجد ما أسماه المراقبون السياسيون القنبلة البروتستانتية للولايات المتحدة وبريطانيا والقنبلة الكاثوليكية لفرنسا والكونفوشوسية للصين وكوريا الشمالية والبراهمية للهند والسنية للباكستان , والآن ننتظر القنبلة الشيعية , انه عالم غريب يتحدث باليسار ويكتب باليمين أو العكس , ولله الحمد أن فلاسفة العلمانية المؤسسون ليسوا على قيد الحياة , وإلا لماتوا حزناً وألماً على نظرياتهم التي دحضها الواقع الفطري الإنساني .
عضو اتحاد الكتاب العرب
د. منير الشواف
دمشق:18/10/2006
|