سحر الشرق ((صديق البدو))
بسم الله الرحمن الرحيم
كوربرشوك صديق البدو في الربع الخالي
تجذب الرمال العربية رحالة آخر، ولكنه مستكشف من نوع فريد، هو الدبلوماسي الهولندي "مارسيل كوربرشوك" المهتم بالقبائل والأشعار النبطية العربية، ليعد بحثاً عن قبائل عتيبة وشمر والدواسر، وتحديد مواقع الدخول وحومل الموضعين اللذين وردا في معلقة امرؤ القيس الكندي ضمنه كتابه الرائع (البدوي الأخير) الصادر عام (2002). وكما أثارت هذه القصائد مشاعر الناس أثارت مشاعره بالمثل.
البحث عن الشاعر المجهول
شد شوك الرحال للبحث عن شاعر يجهله الكثير من الناس، كتب عنه الباحث الهولندي بصدق بعد أن استقصى عنه، وذهب وأقام عنده أشهراً في وادي الدواسر، بل وقصده في تسمية كتابه بالبدوي الأخير: "محبوب عنيد قوي منعزل عن الناس، لا يحب المجالس المملوءة بالناس، ولا يكثر مخالطتهم، والشعر وسيلته الوحيدة للتعامل معهم". هو الشاعر عبدالله بن محمد بن خزيم من الحرارشة من الرجبان، وهو فخذ من قبيلة الدواسر الأصيلة العريقة، والمعروف بـ"الدندان" حيث نشر قصائده مترجمة إلى اللغة الهولندية.
حاول كوربر شوك أن ينقل في بحثه تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها هناك، وكيف تأقلم معهم، وكيف كانوا كرماء جداً معه مثل طبعهم دائماً مع أي ضيف يقول: "وفي نهاية رحلتي كانت المملكة العربية السعودية قد فقدت قطيعاً واحداً على الأقل من قطعانها، ذبحت خرافه على شرفي".
يعتبر الهولندي مارسيل كوبر، من الغربيين المتأخرين نسبيــاً في دراســة تاريخ القبائــل، وقد ركز كثيراً في كتابه، على العادات الاجتماعيــة والشعر النبطي عند بعض القبائل، وكان شغوفــاً ومهتمــاً بالشعر النبطي، ويعتبر من خبراء الشعر النبطي واللهجات العربية لدى الغربيين.
الربع الخالي حالة ذهنية
رأى كثبان الربع الخالي في السعودية حالة ذهنية أكثـر منها شتاتاً قبلياً، وصحارى تمتد أبعد بكثير من حدود المملكة إلى "سقط اللوى بين الدخول فحومل" في وادي الدواسر حيث ملاعب أمرئ القيس ومحبوبته "عنيزة".
يرى كوربر شوك "الشعر في الجزيرة العربية نشاطاً يومياً يمارسه الجميع "ويضيف بقوله:
"كما أن الشعر في الجزيرة العربية ليس ثقيلاً ليكون بالتالي مملاً، من أكثر الأشياء طبيعية عند السعودي أن ينعش حديثه بالتحول إلى شكل القصيـد، ثم يعود إلى موضوع الحديــث في أثناء الكلام "الشعر قاسمهم المشتــرك في أفراحهم وأتراحهم، في مآثرهم وأيامهم التليدة في غزواتهم".
الصحراء والشعر
شكلت الصحراء العربية عبر التاريخ وحياً استلهم منه شعراء البادية قصائدهم. ولطالما قصدها رحّالة غربيون لتقصّي تاريخها وتاريخ القبائل التي سكنتها، وفك رموز شِعرها البدوي وألغازه، والإطلالة من خلاله على ما اكتنف هذه البادية الغامضة من حروب القبائل وغزواتها، ومن مغامرات شعرائها. وقد جال الرحالة كوربر شوك في فيافي الربع الخالي، يقوم بها رحالة نهم لتحري تاريخ القبائل ونبش ماضيها، منغمساً راضياً في حياة البدو، وحفظ أشعارهم ونازلهم في قراءة الشعر بلهجتهم البدوية. وهو في كل ذلك كان يدون ما يشاهد ويسمع.
كانت قبيلة عتيبة بداية بحثه، ومنها انتقل إلى شَمَّر، ومن ثم إلى الدواسر. وفي حين كان الدَّخول وحومل، لا يعدوان أكثر من اسمي مكانين قرأ عنهما الرحالة الغربيون في شعر امرئ القيس، وظلاّ غامضين دونهم، كان كوربر شوك أوّل غربي يطأ هذيـن الجبلين، ويتحرى عن سرّ العلاقة التي كانت تربط امرأ القيس بهما.
وجهاً لوجه مع تفصيلات البادية
في كتابه نقف وجهاً لوجه مع تفصيلات حياة البادية:
النساء المحظور عليهنَّ التخالط مع الرجال، نظرة المجتمع البدوي المسلم إلى "الآخر" المسيحي الغربي، حروب القبائل في ما بينها طلباً للماء والرعي، ونظرة البدو، بشيء من القداسة، إلى اقتناء الخيول. إنها رحلة تزخر بتناقضات كثيرة ولافتة أعاد فيها كوربر شوك اكتشاف حياة قبائل البدو وخُلْقِهم من جديد.
«البدوي الأخير».. نقض الصورة الرومانسية عن الصحراء العربية
إن كتاب "مارسيل كوربر شوك" بداية جديدة لنقض الصورة الرومانسية عن الصحراء العربية، فهي وكما رآها لم تعد كما كانت بعد أن غزتها التكنــولوجيا، وفرضت عليها الشركات الكــبرى نوعاً من القيود المشددة التي تمنع البدوي من العودة لأسطورة فارس الصحراء، فكثيرون من البــدو لا يمانعون في مقايضة الجمل بـ"الحبيب" و"اللاندروفــر"، والحليب الــذي "يصلهم" مثلجاً ومعلباً من المصنع أحب إليهم من ذاك الحليب الصافي الذي يستخرجونــه بأنفسهــم من الناقة. وكوربر شــوك يتواضــع قليلاً فلا يصل بفيلبي وثيسيغر وداوتي ولورانس وهوبير إلى حدود الأسطورة، ولا يعبّر سوى عن حبه لهم.
كوربر شوك والشعر النبطي
ركز كوربر شوك كثيراً على العادات الاجتماعية والشعر النبطي عند بعض القبائل، وكان شغوفاً ومهتماً بالشعر النبطي، ويعتبر من خبراء الشعر النبطي واللهجات العربية لدى الغربيين، يقول في كتابه (البدوي الأخير): «الشعر نشاط يومي عند البدو وقاسمهم المشترك في أفراحهم وأتراحهم في مآثرهم وأيامهم التليدة في غزواتهم، وكذلك في مسامراتهم، والشعر عندهم كالنسب يحفظونه عن ظهر قلب». وقد نقل الشعر النبطي إلى اللغة الهولندية.
يقول شوك مؤلف البدوي الأخير، الذي باع آلاف النسخ من كتابه عن الدندان الصادر باللغتين الهولندية والإنجليزية في صاحب البيت الشهير من قصيدته المثيرة للجدل:
أنا وين أدور لي مع ذا اللسان لسان
يعاون لساني لا يبين الخلل فيه
«في أوروبا كنت نقلت الأشرطة التي سجلت عليها القصائد كلمة كلمة، فانطبع في السنوات التالية صوت الشاعر (الدندان) في ذاكرتي من خلال سماعة الأذن، اللثغة الطفيفة، مسحة الحزن، ولكن أولاً وقبل كل شيء اتقانه هذا الفن، الذي يأتيه مطواعا بلا مجهود منه، كتبت قصائده وترجمتها إلى الإنجليزية، وأرفقتها بمدخل وقاموس بالمفردات، اسم (الدندان) بأحرف من ذهب على الغلاف الخمري، مكسو بغطاء صقيل، مع تصميم شرقي أنيق، يضيفان معا ما يناسبه من مظهر متميز وأنيق من الخارج»، ويضيف: «الجميع أكد أن (الدندان) أعظم شاعر غرد في وصف الجمل بين طريف شمالا ونجران جنوبا!».
كوربر شوك وأمرؤ القيس
قفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقطِ اللَّوى بين الدَّخولِ فحوملِ
أشهر بيت لأشهر قصيدة قالتها العرب، صدح بها امرؤ القيس مستفتحاً معلقته التي نالت من التفسيرات والشروح ما لم تنله قصيدة أخرى، فقد يربو شرح البيت الواحد على الصفحة، ولكن يبدو أن "الدَّخول وحومل" وغيرهما من مواقع لم تثر شهية شارح ولا فُضول مُريد ولا رغبة عاشق للشعر.. فكل ما سوف نجده في الشروح أنها أمكنة!
هكذا، الدَّخول وحَوْمل مكانان. أين يقعان؟
في كتاب "صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار" لعبد الله بن بليهد، ندرك أنهما يقعان في الجزء الجنوبي الغربي من نجد بين بطاح الحجاز البركانية وجبال طويق، والدخول جبل تحته ماء عذب. أما الرحالة النهم الباحث الهولندي مارسيل كوربر شوك فقد قصد مؤخراً هذين الموضعين وكتب كلاماً آسراً. ومن عرض قوله: ".. شققنا أخاديد عبر صحراء شاسعة، تحدها تلال من الغرانيت وتتخللها نتوءات صخرية مبعثرة. وأشار الرجال إلى واحدة من هذه الأطلال: إنها الدّخول!.. كان الماء البارد الزلال تحت الدخول أطيب ماء شربته في الجزيرة العربية ..
كانت حومل تبعد 16 كم إلى الغرب.. ترتفع أكثر من مئة متر، مطلة على البادية صوب بقايا أخرى من التكوينات الصخرية الشبيهة بأطقم الأسنان المتداعية.. وفي منتصف الطريق سقط اللوى. "لوى" هو كل ما يلتوى، وسقط هي كتل الصخور التي تدحرجت وما زالت تنتأ من الرمل. قال مقعد البدوي الدليل: "هذا ما كنا نسمي هذه البئر، سقط اللوى.. والحجارة على حافة البئر موجودة من زمن لا أحد يعرف عمرها. أحياناً تغطيها الريح بالرمال، وأحياناً تنظفها الريح مرة أخرى من اتجاه آخر".
سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك ربي وأتوب إليك
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً طيب مبارك فيه
|