الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فأثناء قراءتي لكتاب " نسب قريش " كان يستوقفني دخول ذرية بعض أبناء الصحابة القرشيين لبوادي الحجاز ، و كان هذا الأمر مطرداً في أعقابهم ، ثم لما شرعت في تحقيق كتاب " عمدة الطالب " لابن عنبة ، كان يزداد ذلك الأمر وضوحاً و ظهوراً ، خاصة في أنساب الطالبيين بالحجاز و خاصة منهم ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما ، فكانت سكنى بوادي الحجاز ظاهرة غير خافية في حياة الأشراف ، فيقال عن أحد الأعقاب والذرية ، هم " بادية حول المدينة " ، أو يقال ، و هم " بوادي حول مكة " ، و نحو ذلك من العبارات .
و قد يبدو للوهلة الأولى ، أن هذه الظاهرة تجري على سنن العرب الأقحاح من اهتمامهم بالبادية و التخلق بأخلاق الأعراب و المحافظة على " المعدية العدنانية " ، و قد تبين بالسبر و الاستقراء ، أن هذا الأمر قديم في أشراف الحجاز ، و هو متوارث يجري في أجيالهم كجريان الدماء في أعقابهم .
و ممن نص على ذكر عقبه في " البادية " :
1. عقب عبدالله المحض بن الحسن بادية .
2. وأكثر سادات البادية من أولاد عبد الله بن موسى الجون .
3. عقب علي الغمقي ، وهو منسوب إلى الغمق منزل بالبادية ، كان ينزله وولده يعرفون بالغميقيين ويقال لهم الغموق ايضا وهم عدد كثير بالحجاز والعراق . كذا في عمدة الطالب .
4. عقب سليمان بن عبد الله بن موسى الجون ، وكان سيدا وجيها ، و ولده في بادية بالمخلاف . كذا في " العمدة " . و في المجدي : و ولده حوالي مكة بادية .
5. آل أبي الطيب ، حجازيون ، بادية ، لهم عدد .
6. و منهم : بنو حمزة ، بادية لهم عدد .
7. وولد الحسن بن موسى الثاني : هم بينبع ونواحيها بادية .
8. وولد على بن داود بن سليمان بادية حول مكة .
9. اسحاق بن عبد الله العالم بن الحسين الرسي : عقبه بادية بالحجاز .
10. ومحمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن المكفوف ، قال الشيخ أبو الحسن العمرى : كان بدويا وله أولاد إلى يومنا بادية . و كانت بعض قرابته : لهم ذيل إلى وقتنا بادية .
11. و من عقب جعفر الطيار : " إسماعيل بالبادية بطن ".
12. و قال في العمدة :" و بنو الطيار بادية كثيرة " . و قال أحدهم :" نحن بنو جعفر الطيار بادية مع آل مهنى نحو من أربعة آلاف فارس نحفظ أنسابنا وننكح في أعراب طى ولا ننكحهم " .
13. وإدريس في عقبه سيادة بني جعفر ببادية الحجاز والعز والمنعة والبأس والعدد .
14. محمد ويحيى ابنا على بن على بن سعيد وولد الحسن المخترق بن داود بن سليمان : بادية حول مكة .
15. منهم : سبيع بن عيسى ، وولده بطن بمكة .
16. وقال القاضى التنوخى : كان بدوياً ينزل آثال و هو منزل في طريق مكة .
17. و من الأشراف الذين كانوا في البادية و كانت في أعقابهم كثرة : " الأشراف الحرابيون " . و يخطيء في معرفتهم كثير من النسابين ، و قد بقيت لهم أعقاب إلى القرن الثامن الهجري معروفة بالحجاز .
18. و من الموسوية الحسنية بالحجاز : عقب أبي جعفر محمد ثعلب بن عبدالله الأكبر بن محمد الأكبر الثائر ، قال ابن عنبة :" و يقال لولده : الثعالبة " [1] .
19. و من عقب الحسن المثلث : و لهم ذيلٌ إلى وقتنا بادية .
20. و عبدالله العالم بن الحسين الرسي : من ولده أمة بالحجاز .
و غيرهم كثير ممن نص على وجود عقبه بالحجاز في كتب النسب [1].
و من النصوص العامة التي توضح سكنى بوادي الحجاز و صحاريه ما قاله ابن جبير في " رحلته " عندما تحدث عن سكان جدة وما يليها من الصحراء و الجبال ، حيث قال :" و أكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء و الجبال أشراف علويون : حسنيون و حسينيون ، و جعفريون ، رضي الله عن سلفهم الكريم ، و هم من شظف العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقاً ، و يستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن : من إكراء جمال إن كانت لهم ، أومبيع لبن أو ماء ، إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه أو حطب يحتطبونه ، و ربما تناول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهن ، فسبحان المقدر لما يشاء . و لاشك أنهم أهل بيت ارتضى لهم الله الآخرة ، و لم يترض لهم الدنيا ، جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً " .
] بدايات سكنى البادية [
قال محمد بن القاسم ( مات سنة 284 ) ، و هو عم الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم :" ولم يزل من مضى يابني من الأسلاف من قومكم في قديم الزمان، تكون لهم البوادي ويتخذونها ويسكنونها في كل بلدة وبكل مكان، ولم يزل الأشراف قط يتبؤون البادية ويعتزلون عن القرى والمدن في الصحاري والبرية في كل ناحية.
فاعتزل في أول الدهر والناس حينئذ ناس في أكبر الشأن والأمر، بنو حسن فَتَبَدَّوْا ، أولهم زيد بن الحسن بن علي عليهم السلام في بادية من المدينة تسمى البطحاء على أربعة أميال، فاحتفر بها بياراً، وبنى بها مساكن متباعدة بعضها من بعض ودوراً، فلم يزل بها بنو حسن بن زيد حتى فرقتهم منها هذه الفتن التي وقعت بالحجاز فكانوا أصح قوم أبداناً ، و أجلدهم جلداً و أظهرهم و أنظرهم ألواناً .
و اتخذْ يابني ! عمُّكم عبدُالله بن الحسن فيما مضى من الدهر والزمن بادية لنفسه وولده من سويقة ، و أكنافها و أوديتها و شعابها ، فاحتفر بياراً وعيناً بالحَزْرَة في قربها ، فيها بنو عبدالله بن الحسن بن الحسن إلى اليوم ، و بعضهم قد اتسعوا و حلوا في بوادي ينبع والغور " .
] أثر البادية على ذرية عبدالله بن الحسن [
" فبنو عمكم بنو عبدالله بن الحسن يابني منذ نزلوا البادية، أكثرُ قومكم عدداً ، و أجلدهم جلداً ، و أوسعهم منازل وبلداً ، و أكثرهم في معائشهم ارتفاقاً بالمواشي من الإبل و الغنم ، فأقربهم لمجاورتهم العرب إلى أخلاق الحرية والكرم ، قد دربتهم و خرجتهم البادية وأهلها ، فجلدوا واشتدت أبدانهم في منازلهم إن حضروا ، و قووا على السفر إذا احتاجوا إلى أن يسافروا فهان وخف عليهم في السفر سرى الليل ، وكبارهم و صغارهم يركبون صعاب الرواحل وصعاب الخيل ، رجال ذووا رجلة ، مخشوشنون بأدنى اللباس والغذاء مكتفون ، قد زال عنهم بسكنى البادية الإسترخاء ، و التفكك و الوهن والكسل ، و الكسح و التركك ، لا يشبهون من في المدينة و قربها من قومهم في لباس أولئك برقيق الثياب ، و قلة صبرهم عن لين الطعام وبارد الشراب، قد زال عنهم في البادية ما لزم أكثر الطالبيين بالبادية من قبيح الألقاب ، و لا يعرفون ما يعرف أولئك بالمدينة من اللعب بالحمام ، لأن هؤلاء الذين بالبادية جيرانهم و أخدامهم العرب الأحرار الكرام ، و من بالمدينة من آل أبي طالب فأخدانهم ، و جيرانهم المولّدون من السودان و السفل اللئام ، فكل من هؤلاء و أولئك بمن نشأ معه وجاوره مقتد متأس ، فقد ترك من بالمدينة من العبيد والسفل ، من جاورهم وخادنهم من آل أبي طالب بهم في الدناءة والسقوط ـ متشبهاً متمثلاً بمذاهبهم محتذياً ... " . أهـ.
و ليس هذا الأمر مختصاً بذرية عبدالله بن الحسن المثنى ، بل هو في عامة أهل الشرف من القرشيين و العرب ، كما تقدم ذكره .
و لهذا قال محمد بن القاسم الرسي الحسني :"
ولآل الحسين : بوادي العقيق والعريض في البوادي والخلوات.
ولآل جعفر : بوادي الفرش ، و بوادي الغور ، فلكل بطن منهم بوادي ومعتزلات، ولهم منازل في البوادي والخلوات.
ولآل عثمان : باديتان ، وادي بدر وبلد يسمى دعان .
ولآل عمر : بادية الخلائق والحمراء.
ولآل أبي بكر : بوادي ثمر والأجار.
ولآل طلحة : بواد.
ولبني مخزوم و تيم : بوادي حول مكة.
ولبني عامر من قريش وفهر : بواد كثيرة .
وكان يقال لا يتم شرف قوم من الأشراف حتى تكون لهم بادية .
و لم يزل يابني كل من يتمعض ، و يأنف و يتمرأ ، و إنْ لم يكن ذا دين من بطون أشراف قريش إلاَّ ولهم بادية، بل لكل بطن منهم بواد و معتزلات، و منازل في البوادي وخلوات ... " . أهـ.
و قد استمر هذا الشأن في الأشراف بالحجاز ، فهذا ابن حوقل من اهل القرن الرابع الهجري يقول في "صورة الأرض " :" و بقرب ينبع جبل رضوى ، و هو جبل منيف ذو شعاب و أودية ، و رأيته من ينبع كخضرة البقل ، ... و فيما بينه و بين ديار جهينة و سائر البحر ديار للحسنيين يسكنونها ببيوت الشعر نحو سبع مائة بيت بادية كالأعراب ، ينتجعون المراعي و المياه بزي كزي الأعراب ، لا تميز بينهم في خَلقٍ و لا خُلق ، و تتصل ديارهم فيما يلي المشرق بوادي ودّان ، و هو من الجحفة على مرحلة و بينهم و بين الأبواء التي على طريق الحاج في غربيها ستة أميال ، و بها رئيس الجعفريين من ولد جعفر بن أبي طالب ، و له بالفرع و السابرة ضياع كثيرة وعشيرة و أتباع . و بينهم و بين ولد الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام حروب و دماء ، حتى لقد استولت طائفة من اليمن يعرفون ببني حرب على ضياعهم و صاروا حرباً لهم و إلباً عليهم ، و قد ضعفوا بخلافهم .. " . انتهى[2] .
] بوادي الأشراف و الأخلاق [
و لما كانت هذه البوادي ستظهر شيء من أخلاقها و أعرابيتها على البيوت الشريفة ، فقد كانوا يحترزون من ذلك بعدم مجاورة أهل اللصوصية و الفتن والعصبية ، و لهذا قال محمد بن القاسم الرسي :" .. و عليكم ما بقيتم بسكنى ما حول المدينة من البادية ، و المجاورة في بوادي الحجاز من أهل الكفاف والعفاف من العرب في البوادي، ولا تختلطوا ولا تجاوروا من العرب أهل اللصوصية والفتنة ، و لا تكثروا دخول مكة والمدينة إلاَّ لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لحج بيت الله الحرام، أو لأخذ حاجة تحتاجون إليها من الأسواق أو لفتنة هائجة مخوفة غالبة تخافون معها انقطاع الميرة والطعام، فإن كان عندكم ذخيرة، وكانت عندكم بلغة ونفقة و ميرة ، ففي البادية من الأودية والجبال والفروع والمحال في شواهق الجبال ما يعزكم عند كل فتنة إن شاء الله تعالى. " . أهـ.
و عندما ذهبت بعض الذراري من الحجاز و استوطنت المخلاف ، استصحبت الأخلاق والعادات التي تربوا عليها في الحجاز ، فحافظوا على سمات الأشراف وعاداتهم و أخلاقهم ، كما جرى لعقب سليمان بن عبدالله بن موسى الجون . قال في " العمدة " : " وسمعت أنهم قد بنوا هناك مدنا وقد أبرزوا الجدران ومع ذلك فباديتهم كثيرة وفيهم عدد وأفخاذ وقبائل وشدة بأس ونجدة وفرسان العرب وفتاكها ينتجعون القطن ، أهل نعم وشاة وخيل وعبيد وإماء ، يبارون الريح سخاءً و لهم منع الجار وحفظ الذمار " .
و كان أشراف الحجاز يعيبون على الأشراف القادمين من خارجه ، إذا اشتكوا من جور السلاطين ، و من ذلك أن " ...رجلا من الأشراف جلس إليه بمكة ، و هو يشكو جور السلطان ، فأدخل العلويُّ الحجازيُّ يدَهُ في ثيابه ، و قال له : ثيابك هذه الرقاق ، هي التي أضلتك سبيلك ، و العز معه الشقاء " ! .
و لهذا كان من وصايا الشريف قتادة بن إدريس لذريته أن يلزموا بنية الكعبة و ألا يفارقوها ، و مراده رحمه الله تعالى مكة و ماحولها من بوادي الحجاز ، لما يورثهم ذلك من العز و الأنفة و الحرية . و لهذا قال ابن خلدون عن ملك و إمارة بني قتادة :" و كان ملكهم بها بدوياً " ، وذلك لكثرة تحقيقهم لذلك المعنى في أحوالهم .
] سكنى المدن عند الأشراف [
كانوا ينهون عن سكنى المدن في القرن الثالث و الرابع .. ولو كانت مكة أو المدينة .. فكيف نقول في زماننا ؟! قال محمد بن القاسم :" .. ، و لا تسكنوا في هذا الزمان قصبة المدينة ولا مكة ، .. ". أهـ .
ثم قال :" .. و كذلك فلا تسكنوا مدن العراق ولا مدينة الكوفة فإنهم قد صاروا إلى غاية العداوة و النفاق ، و ليس لكم بلد و لا لأولادكم أتقى من بوادي الحجاز ، .. " . أهـ.
إن هذا الموضوع من الناحية التاريخية والنسبية فيه فوائد عديدة و يفسر كثيراً من أحوال قبائل الأشراف ، و يوضح حركة أنسابهم و تحركات أصولهم في الجزيرة العربية ، إلا أن من أعظم آثاره و فوائده في نظري : هي الناحية الاجتماعية و الأخلاقية ، و هي ناحية قليلة الطرح ، و ندر من يتحدث عنها .
هذا ، و الله من ورآء القصد ..
يتبع