جاء في القرآن الكريم أن قبيلة قريش كانت لها رحلتان رحلة الشتاء ورحلة الصيف . والباحثون مجمعون على أن هاتين الرحلتين كانتا للتجارة. ذلك أن أهل مكة كانوا تجاراً من الدرجة الأولى، وكانت قوافلهم تنقل المتاجر من اليمن إلى الشام، وتحمل البضائع من الشام إلى اليمن. هذه تجارتهم أيام الجاهلية . فماذا حدث بعد الإسلام ؟
قد تكون تجارة مكة بالذات تدنت كثيراً، ولكن الفتوح العربية الإسلامية جاءت بالجديدة بالنسبة إلى رقاع أخرى. امتدت الفتوح حتى ضمت وادي السند وما وراء النهر شرقاً والأندلس غرباً، وما بين هذا وذاك من شمال إفريقية. واستتبع ذلك أن أصبحت رقعة الاتجار وتبادل السلع والمتاجر تشمل هذه المنطقة الواسعة. والتاجر النشيط صار بإمكانه أن يتنقل بين قطر وآخر ومدينة وأخرى يشتري ويبيع دون أن يعيقه عائق. وبذلك انفتحت أمام العربي والمسلم مجالات واسعة كانت من قبل مقفلة. ومعنى هذا أن الرحلة في سبيل التجارة اتسعت آفاقها وزادت إمكانياتها . وما كان هؤلاء التجار ممن يمر بالبلد دون أن يتعرف إلى أهله ويخبر أحوالهم. وكانت هذه المعرفة تنتقل رواية وأخباراً حتى يقيض الله لها من يدونها وتصبح جزءاً من التراث الأدبي للرحلة.
وبعد أن استقر الإسلام في رقاع إمبراطوريته، ونشأت مراكز للعلم في الأجزاء العربية وغير العربية منه، رحل الناس في طلب العلم من مكان إلى آخر. فهذا بغدادي يشد الرحال إلى دمشق، وهذا دمشقي يقصد بخاري، وهذا تونسي يرحل إلى القاهرة، وهذا قاهري يطلب العلم في فأس، وهكذا دواليك. وهذه الرحلة في طلب العلم كانت أحرى بأن تدون أخبارها، وتبقى آثارها من أخبار تنقل التجار وأصحاب الأعمال. وعلى كل فمن هذه وتلك وصلت إلينا أخبار وأخبار هي من مفاخر التراث العربي.
والإسلام فرض الحج على المؤمنين، ولو أنه جعل الاستطاعة شرطاً . واللذين استطاعوا إلى الحج سبيلاً في هذا التاريخ الطويل كثر. ولم يكن جميعهم ممن يدون أخبارها أسفاره، ولكن حركة التنقل هذه حفزت الكثيرين من أهل العلم إلى تدوين مشاهداتهم. فخرج من ذلك أيضاً تراث في أدب الرحلة كبير.
وإلى جانب التاجر وطالب العلم والحاج يقوم الرحالة المحترف أو الهاوي، أي الذي يرحل من أجل الرحلة.
والذي نستغربه بالنسبة إلى تعدد بواعث الرحلة ودوافعها في الإسلام ليس كثرة ما وصل إلينا، ولكن قلته فأدب الرحلة تعرض إلى ما تعرضت له نواحي الإنتاج العلمي الأخرى في هذه الرقعة الواسعة وهذه القرون الطويلة. فضاع منه الكثير. لكن ثمة أمل بأن يكون في خزانات الكتب المنتشرة في أصقاع العالم العربي، والتي تكشف خفاياها يوماً بعد يوم، كثير مما لم نعرف.
وطلائع الرحالين وصلتنا بعض أخبارهم نقلاً عن الرواة، ومن هؤلاء سليمان السيرافي وابن فضلان والبعض دون أخبارها مفصلة كالمسعودي. والأول من أهل القرن التاسع ( الثالث ) أما الآخران فمن رحالي القرن العاشر ( الرابع ) . والظاهر أن تجار العرب من عمان وسيراف والبصرة في القرن التاسع كانوا يصلون الصين، كما كان تجار الصين يصلون الموانئ القائمة على الخليج العربي. لكن أخبار القرن العاشر لا تشير إلى هذا، بل بالعكس ، فقد روى المسعودي أخبار تاجر من سمر قند خرج من بلاده ومعه متاع كثير حتى انتهى إلى العراق ، فحمل من جهازه وانحدر إلى البصرة وركب البحر حتى وصل إلى عمان وركب إلى بلاد "كلا" ، وهي النصف من طريق الصين أو نحو ذلك. "وإليها تنتهي مراكب الإسلام من السيرافيين والعمانيين في هذا الوقت. فيجتمعون مع من يرد من أرض الصين في مراكبهم. وقد كانوا في بدء الزمان بخلاف ذلك. وذلك أن مراكب الصين كانت تأتي بلاد عمان وسيراف من ساحل فارس وساحل البحرين والابلة والبصرة. " ويعزو المسعودي هذا التغير في الأسفار إلى انعدام العدل وفساد النيات، فلم يعد الفريق الواحد يصل إلى ميناء الآخر، وإنما يلتقي الفريقان في "كلاه" هذه. وليس غريباً أن تنحدر إلينا قصة ابن وهب القرشي الذي غادر البصرة في رحلة حملته من سيراف إلى خانفو "كنتون" ثم عاصمة المملكة الصينية نفسها، وأن أن تحفظ لنا وصف سياحة سليمان السيرافي إلى الهند والصين في القرن التاسع ( الثالث) . وقد زاد في الفوائد التي نحصل عليها من رحلة سليمان أن مواطناً له يسمى أبو زيد، من أهل القرن العاشر (الرابع) أضاف إليها ذيلاً فيه معلومات إضافية كثيرة. وليس من شك في أن الأصل والذيل يعطياننا أقدم وصف وصفه عربي لأقاليم الهند والصين وعادات الأقوام. وفضلاً عن ذلك فنحن نعرف منهما أن الجاليات الإسلامية في المدن الصينية كانت لها امتيازات خاصة إذ كان لها قاضيها وأمامها وشيخها ومساجدها. وقد قال الدكتور حسين فوزي عنها أنها "تعد من أهم الآثار العربية عن الرحلات البحرية في المحيط الهندي وبحر الصين في القرن التاسع. وربما كانت الأثر العربي الوحيد الذي يتحدث عن سواحل البحر الشرقي الكبير والطريق الملاحي إلهيا على أساس الخبرة الشخصية مع التزام الموضوع وعدم الخروج عنها إلى أحاديث تاريخية وغيرها، مما عدونا الجغرفيون والمؤرخون العرب. وإذا رأينا فيما بعد ابن خرداذبه وابن الفقيه والاصطخرى وابن حوقل والمسعودي يتكلمون على أساس من المعرفة الشخصية لبعض المواضع التي يذكرونها، فإنهم أيضاً ينقلون الكثير عن ذلك الأثر العربي الأول بلفظه ومعناه في بعض الأحيان، وبما يكاد يكون لفظه ومعناه في البعض الآخر" ويذكرنا المرحوم الدكتور زكي محمد حسن بأن الوصف الذي وصفه سليمان والذيل الذي أضافه أبو زيد يمتازان بقلة الخرافات والأساطير التي تكثر في أحاديث البحارة.
قال سليمان يصف بعض جزائر البحار الشرقية، وهي بعد جزيرة سيلان "... جزائر تدعى لنجبالوس، وفيها خلق كثير عراة، الرجال منهم والنساء غير أن عورة المرأة ورقاً من ورق الشجر. فإذا مرت بهم المراكب جاؤا إليها بالقوارب الصغار والكبار وبايعوا أهلها العنبر والنارجيل بالحديد. ولا يحتاجون إلى كسوة لأنه لا حر عندهم ولا برد. ومن وراء هؤلاء جزيرتان بينهما بحر يقال له اندمان، وأهليهما يأكلون الناس أحياء ... وهم عراة ليس لهم قوارب. "ووصف سليمان الأعصار المحلي، فقال " وربنا رؤى في هذا البحر سحاب أبيض يظل المراكب، ينشرع منه لسان طويل رقيق حتى يلصق ذلك اللسان بماء البحر فيعلى له ماء البحر مثل الزوبعة فإذا أدركت الزوبعة المركب ابتلعته. ثم يرتفع ذلك السحاب فيمطر مطراً فيه قذى البحر، فلا أدري ايستقي السحاب من البحر أم كيف هذا . "
ومن أهل القرن العاشر ( الرابع ) ابن فضلان الذي أشرنا إليه قبلاً .. وابن فضلان هذا ذهب إلى ملك البلغار في بعثة أرسلها إليه الخليفة العباسي المقتدر بالله . ذلك أن ملك البلغار ، وكان قد اعتنق الإسلام قبيل ذلك بقليل، طلب من الخليفة أن يبعث إليه من يعلمه الإسلام ويعرفه بشرائعه ويعينه في توضيح أحكامه وإقامة مساجده. فاستجاب الخليفة إلى طلبه، فقامت البعثة من بغداد برئاسة موفد خاص من الخليفة، وكان من رجالها ابن فضلان ليقوم بوظيفة رجل الدين. بدأت السفر في صيف 921/309 وقضت في الطريق ما يقرب من أحد عشر شهراً. وكانت طريق البعثة من بغداد إلى بخاري فخوارزم إلى بلاد البلغار وهي إلى الشرق من نهر الفولغا. ولما عاد ابن فضلان، كتب تقريراً عن تلك البلاد كان عمدة المؤلفين والجغرافيين من العرب (أمثال الاصطخري والمسعودي وياقوت) وغيرهم مدة طويلة. ويؤخذ مما كتبه ابن فضلان أن البلغار كانوا آخذين بأسباب الحضارة الحديثة التي كانت قد وصلتهم، وأن علاقتهم بالملك تقوم على نوع من الأبوة، وأن الأدب كان خصلة قوية فيهم . هكذا فإن أخبار ابن فضلان عن هؤلاء القوم وعن الروس الذين جاءوا يتاجرون مع البلغار غنية بالفوائد. وقد عادت على المعرفة الجغرافية بالخير الكثير لمدة طويلة.
الفصل العاشر
المسعـــــــــودي
علي بن الحسين بن علي ، ويتصل نسبه بعبد الله بن مسعود، ومن هنا جاءت النسبة
موضوع الدرس القادم
.
التوقيع
بأبي أنت وأمي يارسول الله
آخر تعديل الرحال الهذلي يوم 03-09-2010 في 01:43 PM.