حين دوّن اللغويون اللغة ولهجاتها في القرن الثاني للهجرة، كان لهم في ذلك ثلاثة مقاييس هي الزمان والقبائل وأحوال الرواة. أما الزمان فقد احتجوا بأقوال عرب الجاهلية وفصحاء الإسلام حتى منتصف القرن الثاني للهجرة، واستمروا يدونون لغات أهل البادية حتى فسدت سلائقهم في القرن الرابع الهجري. وأما القبائل فقد اعتمدوا على ما كان منها في قلب جزيرة العرب لقرب لغته من العربية الفصحى، وردوا سواها فأخذوا عن قريش وتميم وأسد ثم هذيل وبعض الطائيين. وأما أحوال الرواة فأهم ما فيها الثقة، إذ لم يأخذ اللغويون عن أعرابي إلا إذا وثقوا بسلامة لغته وفصاحتها وعدم تطرق الفساد إليها، وكثيراً ما كانوا يمتحنون الرواة من الأعراب امتحاناً صعباً قبل الأخذ عنهم ليتحققوا سلامة لغتهم وخاصة إذا شكوا فيها.
وأكثر ما يعنينا في هذا المقام أن قبيلة هذيل كانت من القبائل المعتمدة عند جامعي اللغة لانطباق مقاييسهم الثلاثة عليها، ذلك أنها كانت عامة من القبائل التي عاشت في البادية في قلب الجزيرة العربية، فمنها قسم سكن ضرعاء وهي قرية بها قصور وحصون، وقسم سكن رهاط والحديبية، وقسم ثالث سكن في مر الظهران وهي قرية في واد ذي عيون كثيرة، ومساكنها هذه ساعدتها على فصاحة لغتها وصفائها، فلم تكن من القبائل التي فسدت لغتها لمجاورة الأعاجم والاختلاط بهم، وأخذ اللغويين عنها والاحتجاج بها دليل فصاحة أهلها وإجادتهم القول يمكن أن نضيف إليه الأدلة التالية:
1-في قبيلة هذيل نشأ عدد من الفصحاء العرب أصحاب السليقة السليمة واللغة الفصيحة المتمكنة، وفي طليعتهم الرسول الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام، الذي كان أبلغ البشر وأفصحهم، وهو من أوتي جوامع الكلم، فقد ربي في هوازن ونشأ في هذيل، ولا شك في أن لغته قد تأثرت بفصاحة أهلها، من ذلك أن أحاديث رويت عنه عليه الصلاة والسلام فيها بعض من خصائص لغة هذيل. ومن الأعلام المشهورين الذين نشؤوا في هذه القبيلة الحسن البصري والشافعي.
2-لم ينزل القرآن الكريم بلغة قريش وحدها، كما نعلم. ذلك أنها لم تكن هي الفصيحة دون غيرها، بل كان إلى جانبها فيه لغات فصاح أخر منها لغة هذيل، وبها نزلت طائفة من ألفاظه في عدد من السور، سأشير إلى بعضها في مكانه من هذه الدراسة، وفي التفسير الذي يرى أن الأحرف السبعة في الحديث المشهور [نزل القرآن على سبعة أحرف] هي لغات القبائل، يذكر العلماء أن لغة هذيل إحداها، من ذلك قول أبي حاتم السجستاني (معنى سبعة أحرف سبع لغات من لغات العرب، وذلك أن القرآن نزل بلغة قريش وهذيل وتميم وأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر).
3-نصّ الأقدمون صراحة على فصاحة لغة هذيل، فأبو عمرو بن العلاء الراوية المشهور انتقى أهل السروات على أنهم أفصح العرب، ومنهم قبيلة هذيل، فقال: (أفصح الشعراء لساناً وأعذبهم أهل السروات، وهنَّ ثلاث الجبال المطلة على تهامة فيما يلي اليمن، فأولها هذيل، وهي التي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة، والسراة الوسطى..)، وهذا حكم لم يصدر عن أبي عمرو إلا عن خبرة وطول ممارسة، ومن النصوص التي تذكر فصاحة هذيل أيضاً قول عبد الملك بن مروان، وهو ذو معرفة دقيقة بالشعر الجاهلي: (إذا أردتم الشعر الجيّد، فعليكم بالزرق من بني قيس بن ثعلبة، وبأصحاب النخل من يثرب، وأصحاب الشعف من هذيل).
ننتهي من العرض السابق إلى القول أن لغة قبيلة هذيل من أفصح لغات القبائل العربية، ولهذا لقيت عناية من اللغويين العرب في عصر تدوين اللغة، كما لقيت بعد عناية من المؤلفين
سلمت على ماجبت بنت هذيل
بحث رائع وتوثيق اروع
بارك الله فيك
التوقيع
//
[poem=font="mateen,4,green,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="double,3," type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
المخالف يالعوارف مايضـدّه غيـر ضـدّه=وان تعلمت الرجال تجيـك بعلـوم الرجالـي
لن ثبّت فيّ الكلام اللي وانـا حاضـر تعـدّه=مايجيني شيء غير يكود من جـدي وخالـي[/poem] عبد الله المسعودي "رحمه الله "