العطور ليست ابنة اليوم ولا الأمس ، لكنها صناعة تعود إلى عمق التاريخ مهدها الشرق ،
ويعزو العلماء ذلك إلى أن الشعوب ذات البشرة الخمرية والداكنة والعيون السود تتميز بحاسة شم قوية ،
إلى جانب أن العطر له خاصية الرطوبة إذا ما نثر في جو دافئ لأنه يخفض من الحرارة
من خلال صده للأشعة الساخنة .
وعن العرب قال قديماً المؤرخ اليوناني " ديوينز يوسي :
إن المرء يشم شذى الطيب عندهم في كل مكان .
عشق العرب الطيب وضمخوا به أجسادهم وأغتسلوا بماء الورد
ونثروه في مجالسهم وأفراحهم .. وعن الرسول صلى الله عليه وسلم
.. أنه عندما خطب خديجة وأجابته ، استأذنت أباها فأذن لها فنحرت بعيراً
وضمخت أباها بالعبير وكسته برداء أحمر .
وفي تاريخ العرب كان العلامة أبن سينا رائداً في صناعتها
فقد استطاع في القرن الرابع الهجري استخلاص العطر من الزهور
في فصل الربيع بواسطة التقطير ، فقد سخن بتلات الورد في الماء
وتمكن من فصل الزيت وحفظه ، وبذلك توصل إلى عطر دائم الأثر ،
وكان لاكتشافه أثر التغيير الجذري في هذه الصناعة
التي تطورت بعدها في استخلاص العطر من غزال المسك
بواسطة غدة صغيرة قريبة من موضع وسط بطنه ،
وتوصل العلماء بعد ذلك إلى إزالة هذه الغدة دون قتل الحيوان ..
ولأن للمسك خاصية كيميائية تجعله مادة مثبتة للعطور
دخل كمادة أساسية في صناعة العطور جميعها ،
ولكي ندرك مدى الجهد المبذول من جانب الصانع
وما تقدمه الزهور من تضحية في سبيل الإنسان ،
فعلى سبيل المثال يحتاج انتاج نصف كيلو من زيت الياسمين
إلى 2,5 مليون زهرة ياسمين أي ما يعادل 150 كيلوجراماً .
والعطور .. أي " البارفان " الذي يعتبر أرق هدية لابنة حواء أنواع ..
فهناك " البارفان الحمضي " ويستخرج من زهور الليمون والبرتقال
ويتميز بقوة تأثيره وقدرته على الإنعاش وترطيب الجسم
ويناسب البشرة الدهنية ، وهناك " البارفان الزهري "
المشتق من أنواع مختلفة من الزهور سريعة الذبول
وهو عطر خفيف يتبخر سريعاً ..
أما عطور النباتات الخضراء
المستخلصة من زيت الصنوبر والأرز
والسيقان العطرية فتتوافر في الأجواء المعتدلة ،
وتعود صناعة العطور الصناعية بالغة التعقيد إلى أربعين سنة مضت فقط ،
وتتميز بمحاكاة رائحة العطور الطبيعية ،
ويستخدم في تركيبتها مزيج من القرفة والفانيليا والزنجبيل ،
وكل جديد يراه الخبراء إضافة وتميزاً للعطر في الأسواق .
ويعد المسك والعنبر المشتقان من الأصل الحيواني
أكثر أنواع الطيب انتشاراً في الشرق ، والمسك يوجد في مظهرين ..
الأول جاف على هيئة بلورات أو سائل دهني من لونين الأبيض والأسود ،
والأخير أكثر جودة وتأثيراً وينتشر بشكل واسع في المناطق الجبلية
من شمال بلاد الهند وفي أواسط آسيا والصين خاصة في التبت ،
وقد ذكر القرآن المسك في سورة المطففين في " الآية 25 "
في وصف شراب أهل الجنة :
( يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) ..
صدق الله العظيم .
أما العنبر وهو مادة شمعية في داخل القناة الهضمية لحوت العنبر
فتطفو على سطح البحار الاستوائية ويستخلص منها دهن العنبر الثمين ،
وهناك دهن العود الذي يستخلص من شجرة في الهند خشبها ابيض
إذا مرضت وأصابها الذبول تفرز مادة زكية الرائحة .
وإلى جانب العطر الحيواني والنباتي هناك زيوت عطرية
من مصادر أخرى يكتشفها العلماء من فترة لأخرى ،
وكان أحدث ما فيها عطر يشتق الآن من الأحجار الكريمة
وخاصة الزبرجد ، لكنه مرتفع الثمن بشكل كبير .
في قراءة لأوراق التاريخ العربي نجد أبا طالب يبيع العطر ،
واشتهرت لطائم النعمان قوافل من الإبل تحمل تجارته في الطيب والمسك .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمنى لو اشتغل ببيع العطور ،
ومن اقواله في هذا المجال :
" لو كنت تاجراً ما اخترت غير المسك فإن فاتني ربحه لم يفتني ريحه " ..
وكانت أسماء بنت مخربة أم أبي جهل في قبيلة قريش
أشهر من يبيع العطور من النساء في مكة ،
وكان ابنها عبدالله يبعث إليها من اليمن لشراء كميات منها للتجارة في الهند .
وكان سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم
يحب الطيب ويستعمله ويوصي باستخدامه ، وكان يتطيب في الحل والإحرام ،
ويقال إنه كان لا يرد الطيب وكان يوصي عليه الصلاة والسلام ألا يرد أحد الريحان
لأنه خرج من الجنة ، وكان الصحابة يضمخون أجسادهم وشعورهم ولحاهم بالطيب ،
فإذا خرج أحدهم إلى المسجد عُرف من طيب رائحته .
وفي أيام ظهور الإسلام كانت للرجال عطور مشتقة من المسك والعنبر
والعود والكافور والذريرة ، أما النساء فكان عطرهن من الخلوف والزعفران ،
وكانت نساء العرب ينثرن العطور على الفرسان إذا ذهبوا للحرب ،
والأمثلة العربية في هذا المجال جاء منها
مثل " يوم حليمة " ويقول : " ما يوم حليمة بسر "
وكانت ابنة لملك الحيرة المنذر بن ماء السماء ، وكانت من أجمل النساء وأذكاهن ،
وقد أشارت على والدها بأن تجعله يأذن لها بأن تطيب
كل من مر بها من جنده وذلك ليعرف الجنود بعضهم من رائحته
إذا غاب فريق منهم عن الاخر ..
وجاء في المثل العربي " أشم من عطر منشم " ..
ومنشم هذه امرأة من قبيلة همدان كانت تشتهر بتجارة العطور
وكان الجنود يتفاءلون بعطرها قبل الذهاب إلى المعارك ..
ومن الأمثال " لا عطر بعد عروس " ..
وهو اسم رجل كانت أسماء بنت عبدالله العذرية زوجة له وعاجلته
المنية فتزوجت من بعده برجل بخيل لا تطيق رائحته
فقالت قولها عنه : " لا رائحة بعد رائحة عروس " .