مفتي نابلس الشيخ الجليل مشهور الضامن المسعودي
فيما يلي موضوع نشره المستشار عبد الله العقيل في مجلة المجتمع الكويتية في عددها الأخير عن الشيخ الجليل مشهور بن ضامن بن بركات المسعودي أترككم معه عسى أن يعطي صورة معبّرة عن هذا الشيخ الجليل :
رائد الإخوان في فلسطين.. الشيخ مشهور الضامن
بقلم: المستشار عبدالله العقيل
مشهور ضامن بركات
هو الشيخ مشهور ضامن بركات.. ولد سنة 1918م في مدينة (نابلس) بفلسطين، وهو من عشيرة المساعيد المنتسبة إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه من قبيلة هذيل. ونشأ في بيئة محافظة، حيث كانت أمه امرأة صالحة، أحسنت رعايته، فنشأ نشأة متدينة، وكان يلتزم بصلاة الفجر في المسجد منذ صغره، وقد رأى أكثر من رؤيا تحثه على طلب العلم، فكان قراره الذهاب لمصر لمتابعة الدراسة الشرعية في الأزهر.
سيرته العملية
وفي مصر تعرّف إلى الإمام حسن البنا "رحمه الله" ودخل جماعة الإخوان المسلمين، كما تعرّف في مقاعد الدراسة بالأزهر في منتصف الثلاثينيات الميلادية إلى الشيخ مصطفى السباعي، الذي أصبح فيما بعد المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، وتعمقت الصلة بينهما وذلك، ولعله يكون أول الإخوان المسلمين من فلسطين.
وخلال دراسته في الأزهر، قام الشيخ مشهور الضامن مع صديقه الشيخ مصطفى السباعي، بمجهود مميز في التعريف بقضية فلسطين، حين قامت الثورة الكبرى في فلسطين (1936م 1939م)، حيث وقف في مكان يطل على كلية الشريعة بالأزهر، وخطب في الطلاب عن تاريخ فلسطين وجهاد شعبها وواجب المسلمين ونحوها، وكان هذا على مسمع ومشهد من الشيخ محمود شلتوت، الذي هنأه بعد كلمته ودعا له بالتوفيق.
وتشاور الضامن مع السباعي وقررا العمل على توعية الناس بالقضية الفلسطينية، وقاما بدعوة الشيخ إبراهيم قطان، والشيخ هاشم خازندار، والشيخ راتب الدويك، والشيخ يوسف المشاري، للانضمام إليهما والعمل معاً، وبعد اجتماعهم قرروا طبع بيان يتضمن شرح قضية فلسطين، ومكانتها المقدسة في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وواجب العالم الإسلامي تجاهها، والدعوة لمقاومة الاحتلال البريطاني والعملاء، كما قرروا توزيع البيان يوم الجمعة في مساجد مصر وخارجها، وتمّ توزيع البيان وخطب بعضهم ومنهم السباعي في عدد من المساجد، داعين للجهاد في فلسطين أرض الإسراء والمعراج، الأرض المقدسة، وفي منتصف الليل، داهمت سكنهم في الأزهر قوة شرطة أخذتهم إلى التوقيف، وهناك طلب المحقق من الشيخ الضامن أن يدلّه على مكان الشخصية الوطنية الفلسطينية المعروفة "محمد علي الطاهر" فرفض الشيخ الضامن برغم علمه بالمكان، وشجّعه الشيخ السباعي على موقفه، ولما حان موعد الامتحانات النهائية، أدى المعتقلون الستة الامتحانات في السجن.
وبعد الامتحانات تمّ إخراجهم من مصر، ونقلوا عبر "غزة" إلى معتقل "صرفند" في فلسطين. وبعد أن استقر الشيخ الضامن في فلسطين، عيِّن مدرساً في المدرسة الأحمدية في "عكا" 1943م كما كان نائباً لمدير المدرسة الشيخ جمال السعدي.
جهوده ومواقفه
رغم وجود أفراد من الفلسطينيين المنضمين إلى دعوة الإخوان المسلمين، والمؤمنين بفكرتهم، والملتزمين بمنهجهم منذ فترة مبكرة، إلا أنهم انتظروا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، للقيام بتشكيل فروع علنية لجماعة الإخوان المسلمين، وكان من أوائل هذه الفروع، فرع الإخوان المسلمين في مدينة نابلس الذي قام بإنشائه الشيخ مشهور الضامن سنة 1946م، وكان هذا الفرع من أنشط فروع الإخوان المسلمين العلنية حتى منتصف الستينيات، وقد استمر الشيخ مشهور الضامن رئيساً له حوالي عشرين عاماً أو أكثر.
وفي حرب 1948م كان للشيخ مشهور وإخوانه جهودهم الطيبة، وبلاؤهم الحسن، برغم إمكاناتهم المحدودة، ولم يكن وقع الكارثة وهزيمة الجيوش العربية، لينال من عزيمتهم وإخوانهم، فقام بإنشاء "جمعية التضامن الخيرية في نابلس" في نفس السنة، وأسهم في بناء المدارس والمعاهد الشرعية، وساعد أهل الخير ببناء دار كبيرة للإخوان المسلمين، صارت مركز إشعاع إسلامي في المنطقة، وأصبح الشيخ مشهور الضامن "مفتي نابلس" وكانت شعبة الإخوان المسلمين في نابلس من أنشط الشعب في الضفة الغربية، خلال الخمسينيات مع شعب "الخليل" و"القدس" و"عقبة جبر" وغيرها.
وقد ذكر الشيخ مشهور الضامن في تقريره سنة 1950م، أن أعضاء فرع نابلس زادوا من مائتين إلى ثلاثمائة عضو خلال سنة واحدة من سائر طبقات المجتمع، وكانت شعبة نابلس أهم مراكز الإخوان المسلمين التي تقام فيها الأنشطة العامة والمهرجانات الخطابية، وكان يشارك فيها رجال المدينة وخطباؤها، فضلاً عن العديد من الزوار والضيوف أمثال الأستاذ عمر الداعوق من لبنان، والشيخ محمد محمود الصواف من العراق، والأستاذين محمد عبدالرحمن خليفة ويوسف العظم من الأردن، وقد حظي فرع "نابلس" بزيارة للأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين في أواخر شهر يونيو سنة 1954م.
وشكل إخوان نابلس فرقاً للكشافة والجوالة، وكان المشرف على التدريب السيد ممدوح النابلسي، وحين ارتكب اليهود مجزرة "قبية" في أكتوبر 1953م، عقد اجتماع كبير من أهالي فلسطين في مدينة نابلس، وطالبوا بطرد الجنرال البريطاني كلوب باشا من الجيش الأردني، وقامت مظاهرات عارمة، وفي شهر نوفمبر 1962م فاز الشيخ مشهور الضامن بأغلبية كبيرة في انتخابات البرلمان الأردني عن مدينة نابلس، كما فاز الأستاذ يوسف العظم عن مدينة معان، والأستاذ عبدالماجد شريدة عن مدينة إربد، وشكلوا كتلة الإخوان المسلمين في المجلس النيابي الأردني.
وقد سبق أن تولى الشيخ مشهور الضامن مسؤولية المراقب العام للإخوان للمسلمين بالنيابة سنة 1957م، كما كان للإخوان المسلمين بفلسطين دور كبير في مؤازرة إخوانهم في المغرب العربي، وشكلوا (لجنة الدفاع عن المغرب العربي) ومحاربة فرنسا في تونس والمغرب والجزائر، وفي منتصف الستينيات حلت الحكومة الأردنية مجلس النواب الأردني، فغادر الشيخ مشهور الضامن الأردن إلى المملكة العربية السعودية للعمل كخبير للخطوط العربية، فقد كان هذا مجال تخصصه، بالإضافة لدراسته الشرعية الأزهرية.
من أقواله
يقول في مقابلة له مع د. محسن محمد صالح:
"إنني تتلمذتُ على الإمام البنا، والتحقت بجماعة الإخوان المسلمين أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات أثناء وجودي للدراسة في مصر، وكان الإمام البنا يؤمّل مني القيام بدور كبير في فلسطين، وقد دعاني قبيل عودتي إلى فلسطين وطلب مني أن أقوم سراً بجمع عناوين رجالات وشخصيات فلسطين وأرسلها إليه، وقد قمت بذلك والحمد لله خير قيام، وتواصلت من خلال هذه العناوين المراسلات بين الإمام البنا ورجالات فلسطين، وكان عنواني الشخصي يُستخدم لإيصال المراسلات إلى هذه الشخصيات".
قالوا عنه
يقول الأستاذ الدكتور محسن محمد صالح:
"التقيته ثلاث مرات وأنا أحاول تسجيل جانب من التاريخ الشفوي للتيار الإسلامي الفلسطيني، وكان ابن الثمانين عاماً يتمتع بروح حيوية شابة، وبنفسية إيمانية عميقة واثقة بربها، لم يهزها النوم على فراش المرض طوال سنتين بسبب آلام مبرحة في الظهر أصابته في اليوم التالي للقائه قيادات الحكم الذاتي الفلسطيني، بعد أن عاد محبطاً منهم حسبما ذكر لي لعدم الاستجابة لنصحه لهم، وقد دعاني الشيخ الوقور بروح دعابته الخفيفة إلى الانضمام إليه في عضوية "فرقة الشباب" التي قال لي إن شعارها: "لا تقل شاب قلبي، ولكن قل شاب ذقني، لا يشيب القلب وذكر الله فيه".
وتصاب بالخجل وهو يحرص على إكرامك وضيافتك بنفسه، ويقوم ليصافحك برغم آلامه ويضغط على يديك بقوة لتحس بنفسك "شبابه" يرحمه الله.
وربما لا يعرف كثيرون من أبناء الدعوة الإسلامية في هذه الأيام وحتى من الفلسطينيين أنفسهم الشيخ مشهور الضامن بركات، وربما كان عذرهم أنه ليس من الأسماء اللامعة في زماننا هذا، ولكنه على أي حال كان أحد أعلام الحركة الإسلامية الكبار في فلسطين والأردن منذ منتصف الأربعينيات وحتى منتصف الستينيات".
ويقول الأستاذ حسني أدهم جرار:
"الشيخ مشهور الضامن.. عالم جليل من العلماء الروّاد في أرض الإسراء والمعراج، وأحد أعلام الحركة الإسلامية الكبار في فلسطين والأردن، ومؤسس شعبة الإخوان المسلمين في نابلس عام 1946م، وأول رئيس لها.. كان مفتياً لمدينة نابلس وقضائها منذ عام 1952م، وعضواً في الهيئة العلمية الإسلامية بالقدس، ورئيساً لجمعية التضامن الخيرية بنابلس، وخطيباً لجامع الحاج نمر النابلسي.
كان من أبرز وجوه نابلس الذين يثق الناس بهم ويحترمونهم، وكان خير ممثل لهم في مجلس النواب الأردني عندما اختاروه عام 1962م بأغلبية كبيرة.
كان مصلحاً كبيراً، ومربياً فاضلاً، ومعلم أجيال.. وكان داعية عاش لدعوة الإسلام، يدعو الناس للتمسك بها والسير على هداها، ولم يكن يعنيه في حياته إلا أن يطمئن على نجاحها قبل مماته.
كان صاحب همّة عالية، وعزيمة قوية، وإخلاص للدعوة، قلّ أن تجد له مثيلاً في فترة الخمسينيات من القرن الماضي تلك الفترة التي طغت فيها الأفكار القومية والناصرية والشيوعية في نابلس ومنطقتها.. فوقف هذا الشيخ الجليل ومعه نفر من إخوانه، وفي مقدمتهم: شريف صبوح "مدير أوقاف نابلس"، وصبحي العنبتاوي، ونبيل بشتاوي، وناجي صبحة، وأحمد الحاج علي، وسعيد بلال.. وقفوا بهمة وعزيمة وثبات ينشرون أفكار دعوة الإخوان، ويربون الشباب على منهج الإسلام.
كانت بداية معرفتي بالشيخ مشهور في أوائل الخمسينيات، حيث كان بينه وبين أعمامي الشيخ فريز والشيخ توفيق، علاقة مودة وأخوة ودعوة... وفي بداية عام 1953م التحقت بالمدرسة الصلاحية في نابلس للدراسة، وكنت أتردد على دار الجماعة، والتقيت فيها الشيخ مشهور، وزرته في بيته مرات كثيرة.. ومن خلال هذه الزيارات وجدت فيه داعية كريم النفس، شفاف الروح، حسن الحديث، وفياً وقوراً، يؤثر أن يعيش بعيداً عن الأضواء.. وصرت أحرص على لقائه والاستفادة من تجاربه، كما أحرص على سماعه في خطبة الجمعة في جامع الحاج نمر النابلسي، واستمرت صلتي به في نابلس وفي عمان، وعرفت الكثير من أخباره منذ التقيته وحتى وفاته عام 1998م، رحمه الله.
وبعد طول معرفة، فإني أقول: إن في سيرة هذا الشيخ وفي نشاطه ومواقفه الكثير من الدروس التي يستفيد منها الشباب، ومن ذلك:
|