نبذة عن شيخـــــــــــنــــــــــ ــــــــا
شيخ الرحالية ابن بطوطة
أن الرجل الذي يقضي ثماني وعشرين سنة من حياته ينتقل في أجزاء العالم المعروف، فتحمله أسفاره من طنجة إلى مصر عبر شمال إفريقية ثم إلى الشام وبعد أن يؤدي فريضة الحج يزور إيران وبلاد العرب وشرق إفريقية ويدخل القرم وحوض الفولغا الأدنى ويعرج على القسطنطينية، بعد هذا كله يمعن في الرحلة شرقاً إلى خوارزم وبخاري وكردستان وأفغانستان والهند والصين وجزر الهند الشرقية وجزر الملديف، وبعد أن يعود إلى بلده يعاوده الحنين إلى السفر فيزور الأندلس والسودان. ويقطع في أسفاره ما لا يقل عن 120.000 من الكيلومترات أن رجلاً هذا شأنه يعتبر بحق شيخ الرحالين العرب، وسيد الرحالين إطلاقاً في عصره، أي في القرن الثامن ( الرابع عشر ) .
وابن بطوطة من مواليد طنجة، عروس المغرب، ولد فيها سنة 703/1304 وفيها درس العلوم الشرعية على ما عرف عن أسرته من اهتمام بها. فلما بدأ رحلاته كان قد أصبح ممن يشار إليهم بالبنان في هذه العلوم. وقد عرف الحجاج المغاربة رفاقه في السفر فضله وهم في الطريق إلى مصر فجعلوه قاضياً لهم، مع أنه كان في الثانية والعشرين من سنة. وقد اجتاز ابن بطوطة المغرب والجزائر وتونس وليبيا إلى مصر وهبط الإسكندرية، فأعجبته فقال "ثم وصلنا في أول جمادي الأولى إلى مدينة الإسكندرية (حرسها الله)، وهي الثغر المحروس، والقطر المأنوس، العجيبة الشأن، الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين. كرمت مغانيها، ولطف معانيها، وجمعت بين الضخامة والأحكام مبانيها فهي فريدة تجلي سناها، والخريدة تجلى في خلاها الزاهية بجمالها المغرب، الجامعة لمفترق المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرب، فكل بديعة بها اجتلاؤها، وكل طرفة فإليها أنهاؤها، وقد وصفها الناس فأطنبوا، وصنفوا في عجائبها فأغربوا" .
وانتقل من الإسكندرية إلى القاهرة مجتازاً الدلتا، ولم يتمكن من الذهاب إلى الحجاز بحراً من عيذاب على النحو المألوف لأن سلطان البجاة قد خرق المراكب، فلم يكن ثمة سبيل إلى قطع البحر الأحمر، فاضطر إلى السير من القاهرة إلى الشام ومنها رافق الحاج الشامي إلى المدينة ومكة. وهنا ننقل جزء من وصفه للطريق من بدر إلى مكة. قال "ورحلنا من بدر إلى الصحراء المعروفة بقاع البزواء. وهي برية يضل بها الدليل، ويذهل عن خليله الخليل، مسيرة ثلاث، وفي منتهاها وادي رابع، يتكون فيه بالمطر غدران يبقى بها الماء زماناً طويلاً. ومنه يحرم حجاج مصر والمغرب وهو دون الجحفة. وسرنا من رابغ ثلاثاً إلى خليص، ومررنا بعقبة السويق، وهي على مسافة نصف يوم من خليص، كثيرة الرمل، والحجاج يقصدون شرب السويق بها، ويستصحبونه من مصر والشام برسم ذلك، ويسقونه الناس مخلوطاً بالسكر. والأمراء يملأون منه الأحواض ويسقونها الناس. ثم نزلنا بركة خليص وهي في بسيط من الأرض كثيرة حدائق النخل، لها حصن مشيد في قنة جبل. وفي البسيط حصن خرب، وبها عين فوارة، قد صنعت لها أخاديد في الأرض وسربت إلى الضياع. وصاحب خليص شريف حسني النسب. وعرب تلك الناحية يقيمون هنالك سوقاً عظيمة إليها الغنم والتمر والأدام" .
وبعد تطواف دام سنين، منها ثمانية أعوام قضاها في الهند وغيرها في جنوب شرق آسيا، عاد إلى مصر ومنها إلى طنجة 750/1349 وحط رحاله بعد ذلك في فاس في بلاط السلاطان أبي عنان. ومن فاس خرج في رحلتين الواحدة إلى الأندلس والثانية إلى السودان الغربي (752/1352) وهذه دامت سنتين. وتوفي ابن بطوطة في المغرب سنة 770/1368 1369.
وفي بلاط أبي عنان المريني تحدث ابن بطوطة عن أسفاره قص أخباره على السلطان نفسه وعلى خواصه وعلى العلماء. فأعجب السلطان بها، ولذلك صدرت إرادته إلى الرحالة بأن "يملي ما شاهده في رحلته من الأمصار، وما علق بحفظه من نوادر الأخبار، ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار وعلمائها الأخيار وأوليائها الأبرار" ، ووضع السلطان كاتبه ابن جزي تحت تصرف الرحالة. فكانت لنا من ذلك هذه المتعة الأدبية التي ننعم بقراءتها فنطلع على كنوز من المعرفة، فنذكر بالخير الرحالة والسلطان وابن جزي.
يجدر بنا أن نذكر أن ابن بطوطة كان قد فقد أوراقه وكتبه غير مرة، ولذلك فقد املئ الرحلة من الذاكرة. وهذه الأسفار التي قام بها، لم يكن من السهل تذكرها مرتبة منظمة، ومن ثم فقد بدأ في الرحلة شيء من الاختلاط الذي أثار بعض الريب في نفوس معاصريه ومن جاء بعدهم، مثل ابن خلدون وفران. لكن أكثر الذين درسوا الرجل وأسفاره مجمعون على أنه كان صادقاً مخلصاً أميناً فيما نقل وشاهد وروى وتذكر. أما الخطأ أو السهو فسببه بعد الشقة وطول الزمن.
ولابن بطوطة، في رحلته، خصائص جديرة بعنايتنا. منها أنه كان قليل الحفاوة بالأرض والمدن، ولكنه كان عظيم الاهتمام بالناس وخاصة بالعلماء والأولياء. ومن ثم فالرجل، بالإضافة إلى كونه رحالة من الطبقة الأولى، يمكن اعتباره مؤرخاً اجتماعياً للمسلمين في عصره.
وحري بنا أن نشير هنا إلى أن ابن بطوطة عاش في عصر، كانت حضارة العرب والإسلام قد بدأت بالوقوف عن التقدم نتيجة لعوامل كثيرة، لعل أهمها التجميد الرسمي الذي فرصته الدولة على العقل ونشاطه فحصرت الجهد الفكري فيما من شأنه أن يقوي كيانها مؤيداً بالدين ويظهر زيغ خصومها. وهكذا فالحضارة العربية تبدو في صفحات ابن بطوطة قليلة الحركة والنشاط والتوثب وتطلع علينا وكأنها لا دينامية لها. ولعل القارئ رأى من بعض ما نقلناه قبلاً عن العبدري مثلاً أن بوادر مثل هذه الحال كانت قد طلعت من قبل. ولكن هذا الأمر يبدو واضحاً كل الوضوح في صفحات ابن بطوطة في اختباراته وزياراته واتصالاته والرجال الذين قابلهم. وقد يقال أن ابن بطوطة بحكم تكوينه الفكري لم يتصل إلا بفئة من أهل العلم توازيه وتسامته. ولكن ابن بطوطة، كان يسير يقظ الذهن مفتوح العين، ويصف ما يرى وتسامته. ولكن ابن بطوطة، كان يسير يقظ الذهن مفتوح العين، ويصف ما يرى ويسمع وتنطبع الصور في نفسه انطباعاً جيداً. فلو وقع على اختبارات حاسمة في ميادين الفكر الوثاب، أو اتصل بأصحاب العقول التي تنفذ إلى أبعد من المألوف لكان صرح أو لمح. ولكن لم يسعد الحال فلم يسعد النطق.
ولا يتسع المجال هنا لنقل الكثير من رحلة ابن بطوطة، ولذلك فإننا نجتزئ بالقليل القليل.
في الخليج العربي "وأكلت في ذلك المركب نوعاً من الطعام لم آكله قبله ولا بعده، صنعه بعض تجار عمان وهو من الذرة، طبخها من غير طحن، وصب عليها عسل التمر وأكلناه. ثم وصلنا إلى جزيرة مصيرة التي منها صاحب المركب الذي كنا فيه، جزيرة كبيرة لا عيش لأهلها إلا من السمك، ولم ننزل إليها لبعد مرساها عن الساحل. وكنت قد كرهتهم لما رأيتهم يأكلون الطير من غير ذكاة. وقمنا بها يوماً، وتوجه صاحب المركب فيه إلى داره وعاد إلينا. ثم سرنا يوماً وليلة فوصلنا إلى مرسى قرية كبيرة على ساحل البحر تعرف بصور، ورأينا منها مدينة قلهات في سفح جبل، فخيل لنا أنها قريبة، وكان وصولنا إلى المرسى وقت الزوال أو قبله فلما ظهرت لنا المدينة أحببت المشي إليها والمبيت بها، وكنت قد كرهت صحبة أهل المركب، فسألت عن طريقها فأخبرت إني أصل إليها عند العصر، فاكتريت أحد البحريين ليدلني على طريقها، وصحبني خضر الهندي، وتركت أصحابي مع ما كان لي بالمركب ليلحقوا بي في غد ذلك اليوم. وأخذت أثواباً كانت لي فدفعتها لذلك الدليل يجب أن يستولي على أثوابي، فأتى بنا إلى خليج يخرج من البحر فيه المد والجزر. فأراد عبوره بالثياب فقلت له: إذا تعبر وحدك وتترك الثياب عندنا، فإن قدرنا على الجواز جزنا وإلا صعدنا نطلب المجاز، فرجع. ثم رأينا رجالاً جازوه عوماً، فتحققنا أنه كان قصده أن يغرقنا ويذهب بالثياب. فحينئذ أظهرت النشاط وأخذت بالحزم، ثم خرجنا إلى صحراء لا ماء بها، وعطشنا واشتد بنا الأمر، فبعث الله لنا فارساً في جماعة من أصحابه وبيد أحدهم ركوة ماء فسقاني وسقى صاحبي، وذهبنا نحسب المدينة قريبة منا، وبيننا وبينها خنادق تمشي فيها الأميال الكثيرة. فلما كان من العشي أراد الدليل أن يميل بنا إلى ناحية البحر، وهو لا طريق له لأن ساحله حجارة، فأراد أن ننشب فيها ويذهب بالثياب، فقلت له: إنما نمشي على هذه الطريق التي نحن عليها، وبينها وبين البحر نحو ميل. فلما أظلم الليل قال لنا: أن المدينة قريبة منا، فتعالوا نمشي حتى نبيت بخارجها إلى الصباح، فخفت أن يتعرض لنا أحد في طريقنا، ولم أحقق مقدار ما بقي إليها، فقلت له: إنما الحق أن نخرج عن الطريق فننام، فإذا أصبحنا أتينا المدينة (إن شاء الله)" .
وقال في المغرب (وطنه) وقد قابله بغيره: "ثم سافرت عن تازى فوصلت يوم الجمعة في أواخر شهر شعبان المكرم من عام خمسين وسبعمائة إلى حضرة فاس فمثلت بين يدي مولانا الأعظم، الإمام الأكرم، أمير المؤمنين، المتوكل على رب العالمين، أبي عنان، وصل الله علوه، وكبت عدوه. فانستني هيبته سلطان العراق، وحسنه حسن ملك الهند، وحسن أخلاقه حسن خلق ملك اليمن، وشجاعته شجاعة ملك الترك وحلمه حلم ملك الروم، وديانته ديانة ملك تركستان وعلمه علم ملك الجاوة.
"وكان بين يديه وزيره الفاضل ذو المكارم الشهيرة، والمآثر الكثيرة، أبو زيان بن ودرار. فسألني عن الديار المصرية، إذ كان قد وصل إليها، فأجبته عما سأل. وغمرني من إحسان مولانا أيده الله تعالى ما أعجزني شكره، والله ولي مكافأته. وألقيت عصا التيسار ببلاده الشريفة، بعد أن تحققت بفضل الإنصاف أنها أحسن البلدان.. لأن الفواكه بها متيسرة، والمياه والأقوات غير متعذرة. وقل إقليم يجمع ذلك كله. ولقد أحسن من قال:
الغـرب أحسن أرض ولـــــــــــــي دليل عليه
البدر يرقب منـــــــــه والمشمس تسعى إليه
"ودراهم الغرب صغيرة، وفوائدها كثيرة. وإذا تأملت أسعاره مع أسعار ديار مصر والشام، ظهر لك الحق في ذلك، ولاح فضل بلاد المغرب. فأقول: أن لحوم الأغنام بديار مصر تباع بحساب ثمان عشرة أوقية بدرهم نقرة. والدرهم النقرة ستة دراهم من دراهم المغرب. وبالمغرب يباع اللحم إذا غلا سعره، ثمان عشرة أوقية بدرهمين. وهما ثلث النقرة. وأما السمن فلا يوجد بمصر في أكثر الأوقات، والذي يستعمله أهل مصر من أنواع الادام لا يلتفت إليه بالمغرب، ولأن أكثر ذلك العدس والحمص، يطبخونه في قدور راسيات، ويجعلون عليه الشيرج والبسلا، وهو صنف من الجلبان، يطبخونه ويجعلون عليه الزيت. والقرع يطبخونه باللبن، والبقلة الحمقاء يطبخونها كذلك. وأعين أغصان اللوز يطبخونها ويجعلون عليها اللبن.والقلقاس يطبخونه. وهذا كله متيسر باالمغرب. لكن أغنى الله عنه بكثرة اللحم والسمن والزبد والعسل وسوى ذلك.
"وأما الخضر فهي أقل الأشياء ببلاد مصر. وأما الفواكه فأكثرها مجلوبة من الشام. وأما العنب فإذا كان رخيصاً بيع عندهم ثلاثة أرطال من أرطالهم بدرهم نقرة، ورطلهم اثنتا عشرة أوقية. وأما بلاد الشام فالفواكه بها كثيرة، إلا أنها ببلاد الغرب أرخص منها ثمناً. فإن العنب يباع بها بحساب رطل من أرطالهم بدرهم نقرة، ورطلهم ثلاثة أرطال مغربية. وإذا رخص ثمنة بيع بحساب رطلين بدرهم نقرة والاجاص يباع بحساب عشر أواقي بدرهم نقرة. وأما الرمان والسفرجل فتباع الحبة منه بثمانية فلوس، وهي درهم من دراهم المغرب. وأما الخضر فيباع بالدرهم النقرة منها أقل مما يباع في بلادنا بالدرهم الصغير. وأما اللحم فيباع فيها الرطل منه من أرطالهم بدرهمين ونصف نقرة.
"فإذا تأملت ذلك كله، تبين لك أن بلاد المغرب أرخص البلاد أسعاراً، وأكثرها خيرات، وأعظمها مرافق وفوائد. ولقد زاد الله بلاد المغرب شرقاً إلى شرفها، وفضلاً إلى فضلها، بإمامة مولانا أمير المؤمنين، الذي مد ظلال الأمن في أقطارها والطلع شمس العدل في أرجائها، وأفاض سحاب الإحسان في باديتها وحاضرتها، وطهرها من المفسدين، وأقام بها رسوم الدنيا والدنيا. وأنا أذكر ما عاينته وتحققته من عدله وحلمه وشجاعته، واشتغاله بالعلم وتفقهه وصدقته الجارية، ورفع المظالم" .
التوقيع |
بأبي أنت وأمي يارسول الله |
|