قال أبو نواس يمدح العباس بن عبيدالله :
أيـها المُـنـتـابُ عـنْ عُـفُــرِهْ = لستَ من ليلي، ولا سمرِهْ
لا أذودُ الطّيْرَ عن شجَرٍ= قـد بـلوْتُ المــرّ مـن ثـمـرِهْ
فــاتّصِـلْ ، إن كنتَ مـتّـصِـلاً = بقُوَىٍّ أنْتَ منْ وَطَرِهْ
خـفْـتُ مـأثـورَ الحـديثِ غــداً = وغـدٌ دانٍ لِمُنْتَظِرِهْ
خابَ مَنْ أسْرَى إلى بَلَدٍ = غـيْـرِ معْـلـومٍ مــدَى سـفــرِهْ
وسّدتْهُ ثِنْيَ ساعدِهِ، = سِنَة ٌ حلّتْ إلى شفرِهْ
فامْضِ لا تمْنُنْ عليّ يداً = مـنُّـكَ الـمعـروفَ من كــدَرِهْ
ربّ فـتْـيــانٍ رَبَــأتُـهُـــمُ = مَسْقِطَ العيّوقِ من سحَرِهْ
فـاتّـقوا بـي مـا يـريـبُـهُـمُ = إنّ تَقْوَى الشّرّ من حذَرِهْ
وابْنُ عمّ لا يُكاشفُنا = قد لبسْناهُ على غَمَرِهْ
كمنَ الشّنْآنُ فيهِ لَنا = كـكـمُــونِ النــارِ في حـجَــرِهْ
ورُضــابٍ بتُّ أرشفُـهُ = ينْقَعُ الظمآن من خَصَرِهْ
عَلّنيهِ خُوطُ إسْحِلَة ٍ= لانَ مَتنَاهُ لِمُهتصِرِهْ
ذا ، ومُـغْـبَـرٍّ مـخـارمُــهُ = تـحْـسِـرُ الأبصـارُ عن قُـطُـرِهْ
لا تـرى عينُ المـُـبيـنِ بـهِ = ما خَلا الآجالَ من بقرهْ
خاضَ بي لُـجّـيْـهِ ذو حـرَزٍ = يُفعمُ الفَضْلَينِ من ضَفرِهْ
يـكتسـي عُـثْـنُـونُـهُ زبــــداً = فــنـصـيــلاهُ إلى نـحـــرِهْ
ثـمّ يعتّـم الحِـجَــاجُ بــهِ = كـاعتـمـامِ الفـوفِ في عُـشـــرِهْ
ثمّ تذروهُ الرياحُ، كما طـار= قـطـنُ النّـدْفِ عن وَتَـرِهْ
كلّ حاجاتي تَنَاولَها وهـو= لم تنـقُـصْ قــوَى أشـــرِهْ
ثـمّ أدنـاني إلى مــلــكٍ = يأمنُ الجاني لدى حُجرِهْ
تأخُذُ الأيْدي مظالمَها = ثمّ تسْتَذري إلى عُصُرِهْ
كيـف لا يُـدْنيـكَ من أمَــلٍ = مـَـنْ رَسـولُ اللهِ مـن نـفــرهْ
فـاسْـلُ عـن نَــوْءٍ تـؤمّـلُــهُ؛ = حسبُكَ العباسُ من مَطرِهْ
ملكٌ قَــلّ الشـبيــهُ لَـــــهُ = لـم تَقَـعْ عـيْـنٌ عـلى خــطَــرِهْ
لا تَغَطّى عنه مكرمة ٌ = برُبَـى وادٍ ، ولا خـُمَــرِهْ
ذُلّلَتْ تلك الفِجاجُ لَهُ = فهو مُخْتَارٌ على بَصَرِهْ
سـبقَ التّـفـــريـطَ رائــدُهُ =وكفَاهُ العيْنَ من أثرِهْ
وإذا مَجَّ القَنا عَلَقاً = وتراءَى الموتُ في صُوَرِهْ
راحَ في ثِنْيَيْ مُفَاضَتِهِ = أسَدٌ يدْمَى شبَا ظُفُرِهْ
تــتــأيّـا الطّــيرُ غُـدْوَتَـهُ = ثِقَة ً بالشّبْعِ من جَزَرِهْ
وتـرى السّــادات مَـاثِـلَـة ً = لسلِيلِ الشمسِ من قمرِهْ
فهُمُ شَتّى ظنونهمُ = حذرَ المكْنونِ من فِكَرِهْ
وكريمُ الخالِ من يمنٍ = وكريمُ العمّ من مُضَرِهْ
قد لبِسْتَ الدهرَ لبسَ فتى ً = أخَـذَ الآدابَ عـن عِـبَــرِهْ
فادّخِرْ خيراً تُثابُ بهِ، = كـلُّ مَــدخــورٍ لـمُــدّخِــرِهْ
قال أبو المثلّم: استهلها بشكوى غدر الصاحب حين اجتال حبيبته من بين يديه مبديا عدم اكتراثه وتجلده وحذره. ثم عاد للتغزّل، ثم تخلص بـ(ذا) واصفا طريقه. واسترسل في وصف حصانه وما يلقاه من الشدة في المسير حتى إن زبده ليطيش كما يطيش القطن من وتر الندّاف. ثم شرع في غرض القصيدة، المدح. وفيه عقد من الفرائد لم يسبق لها ناظم
قال الجرجاني: حكى المرزباني قال: حدثني عمرو الوراق:
رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها: أيها المنتاب عن عفره، فحسدته. فلم بلغ إلى قوله:
تتأيا الطير غدوته = ثقة بالشبع من جزره
قلت له: ما تركت للنابغة شيئاً حيث يقول:
إذا ما غدا بالجيش حلق فوقه = عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقن أن قبيله = إذا ما التقى الصفان أول غالب
فقال اسكت، فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع !
وهذا الكلام من أبي نواس دليل بين في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة. ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئاً لكان قوله: فما أسأت الاتباع: محالاً. لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ. ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أن هاهنا معنيين: أحدهما أصل، وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدواً كان الظفر له، وكان هو الغالب. والآخر فرع، وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطاعم، من لحوم القتلى. وقد عمد النابغة إلى الأصل الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب، فذكره صريحاً، وكشف عن وجهه. واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى. وإنها لذلك تحلق فوقه على دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصة فذكر الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحاً، فقال كما ترى:
ثقة بالشبع من جزره
وعول في الأصل الذي هو علمها بأن الظفر يكون للممدوح على الفحوى، ودلالة الفحوى على علمها أن الظفر يكون للممدوح هي في أن قال: من جزره. وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح، حتى تعلم أن الظفر يكون له. أفيكون شيء أظهر من هذا في النقل عن صورة إلى صورة؟
قال أبو المثلّم: لئن أقر أبو نواس ببيتي النابغة فلعمري كيف يتخلص من بيت أبي ذؤيب
فشربن والعيوق مقعد رابئ الضُـ = ـرباء فوق النجم لا يتتلع
فلقد والله سرقه - معنىً ولفظا ً وصورة ً - حين قال في القصيدة أعلاه
ربّ فـتْـيــانٍ رَبَــأتُـهُـــمُ = مَسْقِطَ العيّوقِ من سحَرِهْ !
،
قصيدة لامست شغاف القلب وأكدت لي أن غرض القصيدة لا يهم أبدا فالشاعر المتمكن يخلق فضاءات ويحلق فيها مهما كان الموضوع بسيطا
بعد هذا، من يلوم علي بن جبله (العكوك) حين افتتن بهذه الرائعة فعارضها بقصيدته الذائعة الصيت التي مدح بها أبا دلف
دع جدا قجطان أو مضر ٍ = في يمانيه وفي مضره
ولقد أجاد العكوك فيها حتى قيل: لا يفاضل بين القصيدتين إلا من كان في مستوى الشاعرين أبو نواس وعلي بن جبله