.
.
وعندما نقرأ للشاعر( أبي كبير) نجده يتحول في قصيدته الفائية من صيغة ( عفت الديار ) الدالة على الموت إلى صيغة ( فعلت ) الدالة على الحياة ،
فتختفي الأطلال ، ويحل محلها المكان الذي تتجسد فيه فاعلية الذات من خلال مجابهتها للخوف ،
والوحدة والخشونة، في سبيل ورود الماء رمز الحياة الجديدة .
ولقد وردت الماء لم يشرب به = بين الربيع إلى شهور الصيف
إلا عواسل كالمراط معيدة = بالليل مورد أيم متغضـــــف
تعوي الذئاب من المجاعة حوله = إهلال ركب اليامن المتطوف
لقد تعود الشاعر على حياته الجديدة ، وألفها حتى أن صوت الذئاب لم تعد تدل على الخوف عنده
فراح يقرن بين عوائها و( إهلال ركب اليامن المتطوف )
وانظر إلى كلمتي ( إهلال )و( اليامن) وما تشعانه من الفيض والبشر والأنس بأصوات الحيوان البريء رغم توحشه
والذي لا يعرف المكر والخداع ، وقبل أن يصل الشاعر( أبو كبير) إلى هذا المكان اجتاز أرضا شاسعة
لا تستطيع الحمر اجتيازها ، ماسكا بيده سيفا به الفلول ماض الأثر ....
ولقد أجزت الخرق يركد علجه = فوق الإكام إدامة المسترعف
فأجزته بأفل يحسب آثره = = = نهجا أبان بذي فريغ مخرف
لقد اجتاز الشاعر الطريق إلى الحياة الجديدة عبر طريق شاق يقف دونه العلج يقطر دما فيرجع على أعقابه ،
وكان رفيق الشاعر في هذه الرحلة سيفه الأفل والذي تتوحد صورة أثره بصورة الطريق الواسع.
وهذا ( مالك ابن الحارث ) يرد على العاذلات يلمنه على القتال كل يوم مع أصحابه الأشداء،
بأنه لن يكف عن الغزو ما دام ماله ناقصا ، ولو مات في سبيل ذلك ، وإن الجبان لا حياة له ،
فإذا ما كثر ماله فسيتوقف عن الغزو, لأنه رأى الناس يمدحون ذا المال ولو كان قبيحا،ويسجد الفقراء للغني ولو لم يسقهم شربة حليب مغشوشة بالماء .
تقول العاذلات أكل يوم = = = لرجلة مالك عنق شحاح
فيوما يغنمون معي ويوما = أؤوب بهم وهم شعث طلاح
فلست بمقصر ما ساف مالي = ولو عرضت بلبتي الرماح
ومن تقلل حلوبته وينكل = = = عن الأعداء يغبقه القراح
فلوموا ما بدا لكم فاني = = = سأعتبكم اذا انفسح المراح
رأيت معاشرا يثني عليهم = = اذا شبعو ا وأوجههم قباح
يظل المصرمون لهم سجودا = ولم لم يسق عندهم ضباح
والشاعر في هذه الأبيات قد فصل لنا صراحة الدوافع الاجتماعية والاقتصادية التي دفعته إلى طريق الغزو،
وهي دوافع مرتبطة بنظام القيم في القبيلة والذي لا قيمة فيه للفقير( ومن تقلل حلوبته ).
وكثرة الحليب لا تكون مع الجبن والخوف من الغزو.
وللنظر إلى هذا الجدل في الصورة كيف يعمق تشبث الشاعر بأحلامه .
فلوموا ما بدا لكم فاني = سأعتبكم إذا انفسح المراح
إذا فالشاعر يسعى إلى تغيير واقعه وتوسيع حياته التي عبر عنها بقوله( انفسح المراح ).
ولاحظ هذه الصورة القاسية التي يرسمها للفقراء ، والتي كانت سببا قي فراره إلى عالمه الجديد ، عالم الصعلكة والغزو والسطو .
إن قوله ( يظل المصرمون لهم سجودا ) يوحي بقمة الذل ، وليت هذا السجود كان سجودا آنيا لهان الأمر
لكنه سجود دائم وقد استعمل للدلالة على ذلك الفعل( يظل ) للتعبير عن الاستمرار في السجود والخضوع .
هذه هي الحياة التي رفضها هؤلاء الشعراء ، وراحوا يتطلعون بعدها إلى حياة يمتلكون فيها وسائل الحياة الرغدة والكريمة ,,,
ولا يتحقق ذلك عندهم إلا بحمل السلاح والهروب من القبيلة إلى مكان يتجمعون فيه لافتكاك رزقهم ورزق عيالهم وتبوىء
مكانتهم التي تليق بقدراتهم وإمكاناتهم ومكانتهم،في أعلى القوم وأعلى القبيلة وليس مع المحرومين والمعدومين ....
من هنا يستمد المكان المرتفع في قصائد هؤلاء دلالته ويصبح الجبل رمزا للعلا والحلم الذي يسعى الشاعر وراء تحقيقه.
فإذا ما وصل الشاعر ( الأعلم ) فقد بدأ بتحقيق شيء من حلمه ، ولا يكفي الوصول بل يجب الصعود إلى أعلى القمة
والوقوف عليها لمراقبة الحياة من الأعلى،,,
فجاءت صورة الصعود إلى القمم العالية جزءا من صورة الفرار إلى الحياة الجديدة ,,,,
وقد تكررت هذه الصورة عند مجموعة من شعراء هذيل مما يدل على ضغطها عليهم.
ومن أمثلتها هذه الأبيات( للمنتخل ) يصور فيها صعوده إلى مرقبة في نهاية رحلة في فلاة.
ومرقبة نميت إلى ذراها = = تزل دوارج الحجل القواطي
وخرق تحسر الركبان فيه = بعيد الغول أغبر ذي نيـاط
أجزت بفتية بيض خفاف = كأنهم تملهــم سبـــاط
(((
إنها مرقبة لا تستطيع حتى الطيور أن تصل إليها...!!!!
لكننا نعرف أن الجبل الحقيقي مهما على ، فلا يعلو على الطير ، فكيف إذن نفهم كلام الشاعر ؟ )))
لا شك انه يريد أن يتحدث عن مرقبة في الضمير وليست خارجه ، فهي في النفس وإن كان المكان والطريق الطويل منطلقهما ...
ولننظر إلى تصويره ( للفتية البيض )، وكيف يشيع البياض في وسط الحمى ( سباط ) جواً حالما ممزوجا بالألم الذي ينبعث من المرض
فينعت هذه الحياة بالنقاء والصفاء والبراءة، فهي حلم جميل لولا كلمة( سباط ) الحادة بسينها وبانفجار بائها وطائها.
,
,
,
وقد يتحد الجبل بالإنسان عند نفس الشاعر في رثاء ابنه ( أثيلـة ) الذي يصوره رمحا كان يقهر به الرجال، إلى
أن يشبهه بالقمة التي لا يدنو منها إلا السحاب والنحل.
رباء شماء لا يأوي لقتلها = إلا السحاب وإلا الأوب والسبـل
وهذا ( أبو كبير) يتذكر أيام شبابه ويفخر بالصعود إلى الأعالي.
ولقد ربأت إذا الرجال تواكلوا = حمى الظهيرة في اليفاع الأطول
في رأس مشرفة القذال كأنما = أطر السحاب بها بياض المجدل
(((
وهناك شعراء آخرون ضمنوا شعرهم هذه الصورة ولم يذكروا الناقة في رحلتهم كما فعل غيرهم
والسبب الذي يعلل هذه الظاهرة هو أن الناقة وظفت للتعبير عن رحلة الشاعر في الحياة عند غير هذيل ...
أما شعراء هذيل وخاصة الصعاليك فعوضوا الرحيل على الناقة بالفرار إلى الجبل،
فرارا كان رمزا للحياة الأبدية التي يتطلعون لها بأرواحهم التواقة للخلود وللحياة الكريمة. )))
لقد اشرأبت نفوس الصعاليك تعانق هذه القمم، ترى في صورتها رمزا للحياة، حياة تطول على مر الأيام والسنين، يموت الإنسان،
ويفنى الحيوان، وتخرب القصور، وتقفر الدور، ويبقى الجبل عبر العصور جالسا وقورا، كبير السن، شامخا، يشيع الأمن والاطمئنان على ما حوله.
,
,
,
وهكذا فهذه الصورة التي صور فيها الشاعر الهذلي فراره من المعركة لم تكن في حقيقتها سوى فرار من المجتمع القبلي إلى المجتمع الطبيعي،
فرار من نمط حياة يقوم على ثقافة وعادات القبيلة إلى حياة جديدة تبدأ من البداية وتحطم كل ما بني في القبيلة.
لقد حاول الشعراء الصعاليك أن يتجمعوا لثورة يقوضون بها أركان المجتمع القبلي، ولكن عملهم كان فرديا لم يصل إلى غايته وبقي في إطار الأحلام والآمال....
ولعله كان الإرهاص لذالك الانقلاب الكبير الذي أحدثه الإسلام فيما بعد . ..!!!
.......... انتهى ......