بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مبحث مختصر عن دلالة الفرار في شعر الهذليين في العصر الجاهلي
البحث يتكلم عن نفسه , و لا إضافات من عندي ,,
ما أبهرني في هذا البحث هو أنه دلاله على أن الرمزية - التي يقولون بحداثتها
و أنها من فضائل الأدباء المتأخرين و أنها ما كانت لدى العرب و إنما هي مكتسبه
من الآداب الغربية-
أقول ما أبهرني هو أن هذا البحث يثبت أن الرمزية عند العرب من الجاهلية
و هي فائدة واحده من عدة فوائد في هذا البحث , أو هذا ما أراه
........
دلالة الفرار في شعر الهذليين في العصر الجاهلي
أ. أحمد بوخطه
جامعة قاصدي مرباح ورقلة
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
نستطيع أن نفهم اعتزاز الشاعر الجاهلي بقبيلته كما نستطيع فهم هذه الصورة التي يرسم فيها إقباله وشجاعته,
وهي كثيرة ومبثوثة في دواوين الشعراء ، ولكن ما يحتاج إلى تفسير ويجب الوقوف عنده ،
هو هذه الصورة التي صور فيها بعض شعراء هذيل فرارهم من المعارك ومواجهة العدو على غرار بعض الشعراء الصعاليك،
بل قد نجد من الشعراء من جعل الفرار صفة يفخر بها ، مبينا قدرته على العدو والإفلات من خصومه .
وقد أرجع الدكتور مصطفى سويف ذلك إلى الميل لدرء الموت حين يتخلى الشاعر عن عصبته الحربية مستبدلا بها خوفا عميقا فتسود لديه آلية الفرار .
| قد يفسر هذا الكلام نفسية الهارب من المعركة ولكنه لا يفيدنا في دراسة صورة الفرار كما جاءت في شعر بعض شعراء هذيل ،
ولهذا فلنتجه إلى شعر هؤلاء لندرس من خلاله دلالة هذه الصورة .
هذا هو الشاعر) أبو خراش(، يصف فرة فرها حينما أقبل عليه بنو نفاثة هاجمين ،
وقد أحس بالموت من قبلهم، فرفع ساقه بالجري وألقى ثيابه لكي لا تعيقه ،
وفاق بعدوه حمار الوحش الضامر قاطعا الصحراء.
ورفعت ساقا لا يخاف عثارها = = وطرحت عني بالعراء ثيابي
أقبلت لا يشتد شدي واحد = = = = = علج اقب مسير الاقراب
الله يعلم ما تركت منبها === عن طيب نفس فاسألوا أصحابي
وللنظر إلى قوله ( طرحت عني بالعراء ثيابي ) فهل يقصد الشاعر بذلك
التخلص من ثيابه التي على ظهره ....!
أم أن التعبير يتجاوز دلالة الثياب على اللباس إلى دلالة معنوية قد تأخذ معناها من الارتباط بالقبيلة
ويكون التخلص من الثياب تعبيرا عن رغبة في التخلص من قيود القبيلة والفرار إلى فضاء آخر يتمكن فيه من إثبات ذاته التي تبحث عن التمييز والانفراد
علما أن علاقات القبيلة لا تسمح بالتميز ولا تسمح للفرد بالانفلات من قيودها ؟
ولنتأمل ربط إقباله بإقبال العلج ( لا يشتد شدي ....علج أقب ) ، وتفوقه على العلج في سرعة عدوه
ولقد مرت بنا تلك الصورة التي رسمها الشعراء للعلج
فصورة العلج حملت عند اغلبهم دلالة الحياة الهشة والتي لا يستطيع المقاومة والوقوف أمام المخاطر،
كما كانت صورة الثور تعبيرا عن قوة الشاعر ومعاناته ومجابهته الأخطار وثباته أمام الأعاصير،
هذه الحياة التي يرمز لها الحمار لم تعد تليق بالشاعر فأراد أن يتخطاها إلى حياة أخرى تخلق فضاء للفعل الإنساني يقع خارج القبيلة،
وإذا كانت هذه الصورة لم تتبلور كثيرا عند( أبي خراش ) نظرا لتردده وقوة ارتباطه بقبيلته تدلنا على ذلك
عبارة( ما تركت منبها عن طيب نفس )
فإنها ظهرت بقوة عند شعراء هذيل الصعاليك( كحبيب الأعل ) و( صخر الغي ) و( أبي جنذب ) وغيرهم....
فمما قيل في تصوير هؤلاء للفرار قصيدة حبيب الأعلم
وتروي القصة انه ذهب مع صاحب له في الصحراء حتى عطشا فاتجها إلى ماء لأعداء لهم
ولكن القوم علموا بأمره فعدوا في أثره، فطاردوه فأعجزهم
في هذه الفرة قال حبيب الأعلم قصيدته وشبه القوم وهم في أثره كمد السيل العارم تمده الغيوم،
يتقدمهم (جذيمة) أسرعهم وقد طار رداءه، فيبدو كحمار أقب في أثره، وينتبه بعد طول عدو إلى انه لا يزال حيا،
وما زال يعدو بكل قوته وقد انتصف النهار، والليل ما زال بعيدا، فيعرف أن قدره في هذا اليوم عدو، ويذكر أهله
وأبناءه الشعث وحاجتهم إليه وفقرهم بعده إلى الأقارب،
في هذه الأثناء يصل إلى جبل نعمان ويزداد أمله( وقد اقترب الليل) في النجاة فيقول:
لما رأيت القوم بالـ = ـعلياء دون قدى( المناصب)
وفريت من فزع فلا = ارمي ولا ودعت صاحب
يغرون صاحبهم بنا = جهدا وأغري غير كـاذب
أغري أبا وهب ليعـ = جزهم ومدوا بالحلائــب
مد المجلجل ذي العما = ء إذا يراح من الجنائـب
يغري جديمة والردا = ء كانه بأقب قـــارب
خاظ كعرق السدريسـ = بق غارة الخوص النجائب
جتى أذا انتصف النها = ر وقلت يوم حق دائــب
رفعت عيني بالحجا = ز إلى أناس بالمناقـــب
وذكرت أهلي بالعرا = ء وحاجة الشعث التوالب
المصرمين من التلا = د اللامحين إلى الأقارب
وبجانبي نعمان قلـ = ت ألن يبلغني مـــآرب
دلجي إذا ما الليل جـ = ن على المقرنة الحباحب
تبدو الصورة للوهلة الأولى أقرب إلى الهزل منها إلى الجد ،
ففيها من الملامح الكاريكاتورية الشيء الكثير، ولكن دلالة كثير من أجزائها توحي بعمق أبعادها الحياتية
فالشاعر قد بدأ صورة فراره من القوم بوضع الإطار المكاني للأحداث،
فهم )بالعلياء( والمكان يحمل دلالة الارتفاع والعلو، كما أن )المناصب( أيضا تأكيد لهذا المعنى،
هذا العلو المرتبط بالقوم والقبيلة هو الذي يحجب عن الشاعر تفرده وعلوه وبروزه،
فالتميز في ظل الجماعة التي تذيب قدرات الفرد صعب بل قد يكون مستحيلا،
إذا كان هذا الفرد معدوما ومن الفقراء المهمشين الذين لا كلمة لهم وسط القبيلة،
وقد أشار الشاعر إلى فقره بذكر بنيه( المصرمين) وقوله ( اللامحين إلى الأقارب ) ولننظر إلى اسم الفاعل من لمح في
(اللامحين ) كيف يصور حركة أعناق بنيه وهي تشرأب متطلعة لعون الأقارب ،
فتشرأب بذلك نفس الشاعر إلى فضاء يحطم فيه هذه الأغلال.
وقد ظهر جليا سخطه على القبيلة التي لم تكفه مؤونتهم
وتبدأ رحلة الشاعر الجديدة في الحياة على أساس نظرة جديدة للعالم تقوم على الحلم بحياة طيبة تهدم فيها العلاقات القبلية.
ولننظر إلى قوله )فريت من فزع( كيف يصور معاناته النفسية في الحياة القديمة وفزعه منها
فيخرج فارا دون توديع صاحب، وكلمة( صاحب ) تحمل من الدلالة على صحة هذا التفسير الشيء الكثير .....
فكيف يعقل أن يفر الإنسان من أعدائه ويودع فيهم أصحابه ...؟
اللهم إلا إذا كان هؤلاء الأعداء أعداء من نوع آخر يجمعون بين العداوة والصحبة ...!!
وهم ليسوا سوى هذه القبيلة التي عاش الشاعر في صحبتها زمنا طويلا، زمنا كان يبدو له ساكنا
وقد مل فيهاهذا السكون القاتل , وهو يريد الآن أن يخرج من هذاالسكون إلى زمن الفعل والحركة.
وتدل الأفعال المضارعة في الأبيات وتواليها على هذه الحركة وهذا الإقدام ( يغرون،أغري،يعجزهم،يبلغني ).
ولننظرإلى تكرارفعل يغري، فقدكرره أربع مرات مناصفة بينه وبين ملاحقيه،( يغرون،أغري،يغري جذيمة )، ليدل على الصراع المرير بينه وبينهم ..
هذا الصراع الذي يبدو لي انه ليس سوى صورة للصراع بين حياة قديمة ورغبة الشاعر في حياة جديدة يكون أساسها العدل والحياة الكريمة.
وبعد رحلة طويلة من الجري ينتصف النهار كرمز لضياء الحياة الجديدة وسطوع نورها ..
ويرفع الشاعر عينيه إلى المكان الحلم في زمن الوضوح و الجلاء والضياء ( منتصف النهار )... والمكان يحوي أناسا ,,
وهم مجتمع الصعاليك الصغير بجبل ( المناقب ).
حتى إذا انتصف النهار = وقلت يوم حق دائب
رفعت عيني بالحجا = ـز إلى أناس بالمناقب
وذكرت أهلي بالعرا = ء وحاجة الشعث التوالب
ولنتمعن في هذا التقاطع العجيب بين الزمان والمكان ، في معلم يقف الشاعر في منتصفه تتجاذبه العلائق من عدة جهات ،
إن الرحلة ستدوم يوما كاملا( وقلت يوم حق دائب ) والشاعر يقف الآن في منتصف هذا الزمن( حتى إذا انتصف النهار ) ،
والمكان الذي تتجه إليه الرحلة ويفر الشاعر نحوه رافعا عينيه له متطلعا إلى بلوغه ،
هو ذلك الجبل البعيد( رفعت عيني إلى أناس بالمناقب ) ،
وهو الآن في منتصف هذا الطريق هكذا يلتقي منتصف النهار مع منتصف الطريق ويتقاطع الزمان والمكان في نقطة واحدة ،
وفي التقائهما يقفز ( الزمن التاريخي ) حسب تعبير الدكتور كمال أبو ديب إلى ذاكرة الشاعر فيتذكر أهله الذين لا يزالون مرتبطين بالقبيلة
وتحاول هذه العلاقة أن تثنيه عن مواصلة هروبه دون جدوى،فحاجة أبنائه الفقراء ونظرةالتسول في أعينهم يلمحون من
خلالهاالأقارب، تدفع الشاعر وتشجعه على المضي قدما في الفرار.
وينظر إلى مكان الوصول فيجده ما زال بعيدا ، فيعمد إلى حيلة يعجل بها الرحلة ،
ألا يمكن اختصار المسافة التي تفصله عن المرتفع المقصود بتسلق الجبل القريب ،
ومنه يصل عبر الجبال المجاورة إلى هدفه ؟
يمكنه ذلك وها هو يصرح قائلا:
وبجانبي نعمان قلــ = ــت ألن يبلغني مـآرب
دلجي إذا ما الليل جـ = ـن علي المقرنة الحباحب
والمقرنة هي الجبال المتقاربة ،وسيكون الليل زمن اختصار هذه المسافة التي تفصله عن تحقيق آماله ،
والليل هو الزمن الذي يحصل فيه الصعلوك على رزقه ، ولذلك اختار الشاعر هذا الزمن كم اختار قمم الجبال ليصل إلى
مبتغاه ، في غفلة من عين القبيلة.
............ يتبع ........