رد: رمـــاد عــادت به ســاره
- أبو الولد .. زوجك موجود ..؟
- متوفى ..
- اذهبي .. واتركي تلفونك ، وأنا أتصل فيك .
غامت الدنيا في عينيها .. وشعرت باختناق . أطبقت كفها على يد أصغر الأطفال ، وسحبته متجهة نحو الباب ، دون أن تقول شيئاً .
.
- ما تبغين تتركين تلفونك ..؟
لم ترد عليه .. كانت مختنقة .. محبطة ،حزينة . قبل أن تضع قدمها خارج المكتب ، لمحت لوحة معلقة على الحائط المقابل ..
قد إزدانت بآية كريمة :
الذين آمنوا ، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .
لا تدري ما علاقة الآية بالسجن ..! ربما لشعور السجان أنه يحقق أمناً ،
باحتجازه مراهقاً خلف القضبان لعدة أشهر ، لأن ( فضيلة ) القاضي يؤجل موضوعه .. شهراً بعد آخر ..!
أجل الشيخ الجلسة .. لم يجلس الشيخ . عبارات كانت تنغرس في وجدانها ، كالحسك في عين عزلاء ..
ليس إلا الدمع ، ماء ينسكب .. ويستل النور والحياة .
لم تقف في تفكيرها طويلاً .. عند الهدف من كتابة هذه الآية ، وتعليقها في لوحة ، في مكتب سجان .
تذكرت أنها كانت قد رأت شيئاً ( مشابهاً ) ..
عبارة مكتوبة على مكتب أحد الجنود.. خَطّها هو ، أو ربما أحد زملائه .. تقول : ( العدل أساس الملك .. صدق الله العظيم ) .. !
حين اجتازت البوابة الرئيسية .. إلى الشارع ، كانت الشمس تقترب من وسط السماء . شديدة التوهج .. شديدة الحرارة .
حزم من أشعتها تقع على زجاج السيارات العابرة بســرعة ، فتحدث وميضاً ، يشل قدرتها على الإبصار للحظات .. فيزيدها توتراً .
مرّ وقت ، ولم تأت أي سيارة أجرة ، من سيارات ( الليموزين ) .. التي عادةً ما تمتليء بها الشوارع . موقع السجن ناء .. حتى عن أطراف المدينة ،
ومن النادر أن ترتاده سيارات الأجرة . صهرتها الشمس ، وانكمش الأطفال من الحر، فلاذ بعضهم بها . وهج الشمس أجبرهم أن يمدوا سواعدهم
الصغيرة النحيلة ، بمحاذاة أعينهم ، وأن يغمضوا إلى أقصى حد يستطيعوه، ليتقوا الضوء الشديد . أصحاب السيارات المارة ، توقف بعضهم ،
وعرضوا عليها المساعدة . لم تشأ أن تستجيب لأي عرض ، رغم وطأة حرارة الشمس . لا تستطيع أن تميز مَن مِن هؤلاء الرجال ،
يريد أن يساعدها حقاً .
تتذكر بكثير من الأسى حديث أمها عن قريتهم ، وحال الرجال والنساء ، يعملون جنباً إلى جنب .. في الحقول والمراعي .
كانت ليلة رعب حقيقية ، يوم عادت هي وإياها .. وزوجة جارهم ، من المسجد المجاور لمنزلهم ، بعد صلاة التراويح . في الشارع المعتم قليلاً ،
حاصرهن أحد الأشخاص ، وحاول التعرض لهن . عندما أفاقت الأم من صـــدمة الـمـــــوقف .. فيما بعد ،
ظلت تردد : لا .. ما هذي بديرتنا .. ما هذي بديرتنا .. !
ثم انطلقت تحكي قصصاً كالأحلام ، عن مجتمع كان .. تعطر بالبراءة ..!
الانتظار ممض ، تحت أشعة شمس ، تضج من حرّها الحجارة الصماء . لم تكن حرارة الشمس هو ما تشكو ،
بقدر ما يفت كبدها الغبن والظلم ، الذي تحس ناره تتسعر في أحشائها .. وهي تتسول حقاً لها ، وتتعرض من أجله .. للابتزاز .
كان التساؤل يتضخم في ذهنها ، ويتمدد مثل ورم سرطاني :
إذا كان قدر امرأة في مجتمعها ، أن تجد نفسها بلا ( رجل ) .. لماذا يلجئونها إلى أوضاع مهينة كهذه ؟ هل قدرها إذا فقدت الرجل ، أن تفقد
الاحساس بالأمان .. وأن تفقد الكرامة ، والتعامل الكريم ، الــــــــــــذي يحـــــــــمل عنـــــها بعض آلام ( الفـــــقد ) .. وما يخلفه من شعور بالعجز .. ؟ ! .
قررت أن تسير على قدميها . المسير .. حتى ولو طال ، يظل أرحم لامرأة .. من الانتظار تحت شمس حارة ، على قارعة طريق .. أمام سجن ..!
سارت غير بعيد ، فبدأ الأطفال يتعثرون تعباً.. وعطشاً ، وهي .. قد امتلأت قنوطاً ..
لا معنى للوقوف والانتظار .. كانت تصرخ فيهم .
توقفت إلى جانب الطريق سيارة ، ونزلت منها امرأة .. وقصدتها :
- نوصلكم .. يا أختي ..؟
اطمأنت لوجود المرأة ، لكنها لم ترد بسرعة على عرضها. الشمس .. والأطفال العطـــــشى ، الـــذين هدّهم الإعياء ، لم يدع لها مجالاً للرفض ..
فردّت بتردد :
- جزاك الله خيراً .. لكن بيتنا بعيد ..!
- لا يهم ..
- أخشى أن
- لا .. لا يوجد أي مشكلة .
.
جلست في المقعد الخلفي ، وتراص الأطفال حولها .
كانت حريصة ألا يقوموا بأي عبث في السيارة . فهي مرّة .. تسحب يد هذا من زر قفل الباب ،
وتارةً تمنع يدالآخر من أن تمتد لزر زجاج النافذة . بين سحب يــد هذا .. ومــنع ذاك ، كانــت كذلك ،
تسعى للسيطرة على أصواتهم وحركاتهم :
( اجلس .. لا ترفعي صوتك .. عيب .. أزعل عليك ) .
سلسلة من الأوامر والتوجيهات ، تتخللها ( قرصة ) أو ( ضربة ) ..!
الصمت الذي التزم به سائق السيارة ، والمرأة التي معه ، جعل مسموعاً .. ما يصدر منها ، من توجيهات وأوامر لأولادها .
. وكذلك احتجاجاتهم على العقوبات ، التي توقعها بهم ، بسبب حركتهم الزائدة . شعرت بالحرج بسبب ذلك، لكنها لم تكن قادرة ،
أن تترك الأطفال وشأنهم ، يزعجون الرجل ، وربما يتلفون شيئاً في سيارته .
كأنما بلغ بها التعب أشده .. أو أحست بالاحباط ، فانخرطت في بكاء .. يسمع له نشيج .
كانت قد نهضت هذا الصباح، وأيقظت الأطفال في ساعة
مبكرة . أوصلت البنت الكبرى ، التي تدرس في المرحلة المتوسطة ،إلى مدرستها ،
وأعطتها مفتاح المنزل .. تخشى أن تتأخر عن موعد خروجها من المدرسة
، فتضطر البنت للــــبقاء في الشارع . في كل مرّات قدومها إلى هذا المكان ، لم تحضرها إلا مرّة واحدة .
يومها .. انتهبتها الأعين الجائعة . لقد صادف في تلك المرّة أنها لم تلبس جوارب ، وحينما نزلت من السيارة ، انكشفت ساقها .
لاحظت أن عشرات الأعين لجنود ومراجعين ، كانت متسمرة على باب السيارة ، تنتظر لحظة نزولها ، وانكشاف ساقهــــــــــــــا ..
مثـــــل ( كاميرات ) ترصد حدثاً .. وتتأهب لوقوعه .
اتسعت الأحداق ،عند نزول البنت ، وارتفاع ثوبها .. لتستوعب المشهد . ثم حين استوت الفتاة على قدميها
، وأصلحت من وضعها ، وسارت لتلتحق بأمها وإخوانها .. استدارت العيون ، وتحركت الرؤوس .. لـ ( اصطياد ) مزيد من التفاصيل ..!
تلاحظ هذا السلوك كثيراً .. حيثما تذهب . فما أن تهم امرأة بالنزول من سيارة ، حتى تتجه نحوها الأنظار ..
وتتسمر عيون بعض الرجال على باب السيارة . يجري هذا مــعها هي .. ومع الأخريات .
لم يحدث في أي مشوار سارته بالسيارة ، أن نجت من نظرات فضولي يتلصص عليها ، أو على نساء غيرها .. في السيارات التي بجانبها .
في ثرثرة مع إحدى الزميلات .. كان التساؤل ملحاً :
لماذا بعض الرجال في مجتمعنا مهووسون .. جائعون جنسياً ؟ لماذا الافتراض أن ( كل ) امرأة ، تمشي في الشارع
، أو تقف على جانب الطريق ، أو حتى تتحدث على الهاتف .. لحاجة لها، هي هدف جنسي .. بالضرورة .. ؟ !
بكاؤها أثار انتباه الرجل والمرأة ، فتهامسا قليلاً . التفتت المرأة بعدها .. وقالت :
- فيه شيء .. يا أختي ..؟
أحست بالحرج ، وحاولت التوقف عن البكاء .. ولم ترد .
- نقدر نساعدك بشيء .. ؟
- ما تقصّرون .. !
- زوجي يقول أنه ثالث مرّة يشوفك هنا .. لحالك ، عند بوابة السجن .
- سلامات .. عسى ما شر ..؟!
- ولدي مسجون .. وصار لي مدة ما شفته ..!
- شدة .. وتزول ، إن شاء الله . لكن .. صعب المرأة تأتي لوحدها ، لمثل هــــــذه الأماكن ..!
- زوجي متوفى .. وجماعتي مشغولون..!
كأنما ذكر زوجها .. وحالة الإحباط التي تعيشها ، وانتقاد المرأة المبطن .. لحضورها لهذا المكان ، فتق جرحها وأيقظ حزنها .
. وأثار في ذهنها خاطر :
أكانت ستأتي .. لو كان هناك ( ترتيباً ) يصون حياءها ، ويحفظ كرامتها .. ؟ .. فعاودت البكاء ثانية .
عادت المرأة للتهامس مع الرجل مرّة أخرى ،ولمدة أطول، ثم التفتت إليها .. وقالت بلهجة لا تخلو من أسى :
- آسفة .. أنا لم أقصد .. لكني أشفقت عليك من التردد على هذا المكان ، وما يمكن أن تتعرض له امرأة مثلك ،
وكذلك .. رحمت هؤلاء الأطفال ..
- أنا أعيش ذلاً ، وأخضع لابتزاز .. في كل مـــرّة أجيء فيـها .. من أجـــــل أن أرى ابني .. !
- الله يكون في عونك .. سنحاول مساعدتك قدر استطاعتـنا ..
خيـــم صـمت على الجميع . بعد أن ساروا مسافة ، قطع الرجل الصمت ، بحـــــــديث خافت ،كان يتبادله مع المرأة..
توجهت المرأة بعده ، بالحديث إليها :
- زوجي ضابط في إدارة السجون ، وهو يسال إن كان بالإمكان أن تزودينا ببعض المعلومات .. لنستطيع مساعدتك .
- معلومات .. مثل ماذا .. ؟
- اسم الولد .. وقضيته .. ورقم هاتفك ليتم الاتصال بك ..
- من يتصل بي .. ؟ !
- زوجي .. أو أحد من الإدارة ..
- لا .. أرجوك . لا أريد أن يتصل بي أحد .. لقد أعطيت رقمي لأحدهم .. فكان يتصل في ساعات متأخرة من الليل .
. بدعوى أنه يريد أن يسهل لي زيارة ابني ..!
- زوجي رجل صالح وشريف .. ولا ..
- عفواً .. أنا لا أتهم زوجك . لكني لا أريد أن يتصل بي أحد .. وأفضل أن يكون الاتصال بيني وبينك ..!
- معك حق .. لا تلامين ..! هل يمكن أن نعرف اسم الولد .. وقضيته ؟
- الولد اسمه منصور الناجي .. قضيته مضاربة ..!
- أنا جواهر .. أم عمر . إذا اتصلت .. أقول أم منصور ..؟
- نعم .. سارة .. أم منصور . جزاكم الله خيرا .. وصلنا ، هذا البيت .. الثالث على اليمين .
بعد أن نزلت سارة وأطفالها ، استدارت السيارة متجهة نحو الطريق العام . عند الإشارة ..
كان هناك أطفال يبيعون مناديل وماء .. بعضهم حفاة ..
- مسكينة .. تكسر الخاطر ..!
- من .. ؟ !
- المرأة ..!
- صحيح ..
كان ساهياً .. ينظر إلى الأطفال ، الذين لفحت الشمس قسماتهم الغضة ، وتيبس العرق على أطراف جباههم .
في الجريدة .. اليوم ، قرأ لرئيس التحرير.. في عموده اليومي ، حملة ضد هؤلاء الأطفال ، الذين سماهم أطفال الشوارع ،
وذكر أنهم يشوهون الوجــــه ( الحضاري ) للمجتمع ، ويقدمون صورة سلبية عن الوطن .
قبل أسابيع زار مقر الصحيفة، ضمن وفد من الإدارة التي يعمل بها . استقبلهم رئيس التحرير ، وكان في وداعهم أيضاً . كان لطيفاً .
. حسب تعبير الزملاء ، فحينما صحبهم إلى الخارج ليودعهم ، قصد سيارته المرسيدس (600 ) ، فتحها وأحضر مجموعة هدايا ،
أطقم أقلام .. ووزعها عليهم . الزميل الذي بجانبه ، أسره المشهد الأخّاذ للسيارة الفارهة ..
والطريقة الباذخة ، التي تنفتح فيها الأبواب .. وتغلق ، فمال عليه هامساً :
- السيارة روعة .. تصدّق إن سعرها نصف مليون ريال .. فقط .. ؟!
مشهد رئيس التحرير ، بحذائه الإيطالي ذي الألف ريال ، يختال في الممرات الرخامية لمبنى صحيفتة
،وسيارته ذات النصف مليون ريال ، يقف صارخاً أمام منظر الطــــفل حافياً .. جفت شفتاه ،يمد ساعده النحيل ، بزجاجة ماء ، قيمتها ريال .
بين المشهدين يتمدد مقال عن الوطنية ، يشتمل على حملة ضد أطفال ، لم يأتوا من الفضاء .. وإنما ( نبتوا ) على أرصفة شوارع الوطن ..!
بين المشهدين ســـيارة بنصف ملـــيون ريال، وقدم صغيرة حافية .. وأفواه جائعة ، يتــــربص بهـــا رئيس تحرير ..
يرفل بــ ( وطـنية ) وطن .. لم يمش يوماً على أرصــــفته .. ولم تلفـحه شمسه .. !
يذكر أن الصحيفة ، أعدت العام الماضي ملحقاً جميلاً عن السياحة ( الوطنية ) ، وتعرضت إلى ما تؤدي إليه السياحة في الخارج ،
من هدر للمال الوطني ، يعد بمليارات الريالات . حينما صدر الملحق ، كان رئيس التحرير ، حسب خبر نشرته الصحيفة ،
يستقبل في مقر إقامته الصيفي في جنيف ، وفداً أوروبياً ، للتعريف بالــثقافة الوطنية .
- هذا المنافق ..!
قالها .. وهو يمد ورقة النقود للطفل ، ويتناول منه زجاجة الماء .. ثم يدفع الصحيفة جانباً .. بغيظ ، ليضع زجاجة الماء مكانها .
عرفت أنه يقصده . لأنه منذ عاد من زيارته تلك .. إلى الجريدة ، وهو لا يســميه إلاّ كذلك : كتب المنافق .. قال المنافق..! التقطت الصحيفة ،
وفتحتها على الصفحة التي ينــشر فيها عموده اليومي . وجدت المقال الذي استثاره : وطنٌ جميل بـــدون أطفـــال شوارع ..! .
حينما ناقشته مرّة .. عن سبب نقمته عليه ، قال : هذا وأمثاله ، هم أصل الـبلاء . لا ينشرون ، ولا يكتبون ..
إلاً ما يرضي المسؤول الفاسد .. الذي يضــــــمن لهم البقاء . يلمعون ( اللصوص ) ، ليأكلوا من فتات موائدهم .. ما علاقة هؤلاء بالوطن ..؟! .
حين فرغت من قراءة المقال .. أدارت رأسها تجاهه :
- صاحبك مرّة أخرى ..!
- هل يكتب هذا التافه .. عن حال هذه البائسة.. أو يحس بهؤلاء الجياع ،الذين يتناثرون على الأرصفة
يـــتـــبع
|