الهجرة.. انتصار لا فرار
كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة حدثا مهما من الاحداث الحاسمة في تاريخ الدعوة الاسلامية، فبها انتهى عهد وابتدأ عهد، ولم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم جبنا او فرارا، بل كانت انتقالا من دار صعب فيها نشر الدعوة الى دار وضع فيها اساس الدولة الاسلامية العظيمة، فتألفت قلوب الاوس والخزرج وتآخي المهاجرون مع الانصار فصارت الهجرة فرقانا بين الحق والباطل وكثر المؤمنون بعد قلة واجتمعوا بعد شتات. لقد كانت درسا في الصبر والتوكل على الله تعالى ولم تكن طلبا للراحة ولا هربا من قتال عدو ولا جبنا من مواجهة، ولا تخاذلا عن احقاق حق او ابطال باطل، ولا تهربا من الدعوة واعبائها. ولكن هجرة بأمر الله تعالى: فلقد اوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم واوذي اصحابه الكرام في مكة، وصبر صلى الله عليه وسلم على ايذاء المشركين، وانصب العذاب على المستضعفين صبا وقابلوا ذلك بالصبر والثبات. وعرض المشركون على رسول الله جملة مقترحات علها تثنيه عن دعوته، جاؤوا الى عمه ابي طالب يقولون له يا ابا طالب ماذا يريد ابن اخيك ان كان يريد جاها اعطيناه فلن نمضي امرا الا بعد مشورته، وان كان يريد مالا جمعنا له حتى يصير اغنانا، وان كان يريد الملك توجناه علينا ورد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه العروض بقوله: لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي ما تركت هذا الامر حتى يظهره الله او اهلك دونه! فأجمع المشركون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعوا من كل قبيلة رجلا جلدا ليضربوه ضربة رجل واحد حتى يتفرق دمه بين القبائل، فأتى جبريل عليه السلام واخبره بكيد المشركين وامره بألّا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّيا بن ابي طالب رضي الله عنه وامره ان يبيت في فراشه، ثم خرج صلى الله عليه وسلم وهم على بابه ومعه حفنة تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وهو يقرأ: «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون» وأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يروه.
في الغار
ولجأ هو وصاحبه ابو بكر الصديق الى غار ثور، وفتشت قريش في كل وجه، وتتبعوا الاثر حتى وقفوا على الغار، فقال ابو بكر: يا رسول الله لو ان احدهم نظر الى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: يا ابا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! وشاء الله تعالى ان تكون الهجرة بأسباب مألوفة للبشر، يتزود فيها للسفر، ويركب الناقة، ويستأجر الدليل، ولو شاء الله لحمله على البراق، ولكن لتقتدي به امته بالصبر والتحمل لمشقات الدنيا والعمل الدؤوب للآخرة. لقد كانت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نصرا للاسلام والمسلمين، حيث ابطل الله مكر المشركين وكيدهم في تقديرهم القضاء على الاسلام بمكة، وظنهم القدرة على قتل رسول صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم».
الاستقبال الكبير في المدينة
واصل النبي - صلى الله عليه وسلم - رحلته الى المدينة، وتعددت مظاهر عناية الله له، وظهرت دلائل بركته، واشتد شوق أهل المدينة اليه لما علموا بخروجه، فكانوا ينتظرونه كل يوم، ولا يرجعون حتى يشتد الحر، فلما شرفت المدينة بمقدمه، لم يفرح الناس بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جعل الصبيان والنساء والاماء يقولون: جاء رسول الله، جاء رسول الله!
ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخواله من بني النجار، وعمت الفرحة ارجاء يثرب التي تغير فيها كل شيء منذ ذلك اليوم، حتى اسمها، فقد اصبح المدينة المنورة، مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكانها اصبحوا «يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا» و«يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» و«من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون».
يبكي من الفرح
لما أذن الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة، جاء منزل أبي بكر نحو الظهيرة، وقد اشتد الحر في وقت لا يخرج فيه احد عادة، وعندما أخبر أبوبكر بقدومه في هذا الوقت، عرف ان الامر خطير، ولما اخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبابكر ان الله تعالى أذن له في الخروج، قال: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة. تقول عائشة: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم بان أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبابكر يومئذ يبكي!
التوقيع |
مع الشكر والتقدير |
|