يوميات ميت (1) .. بقلم أنا من تراب
[frame="9 80"]يوميات ميت (1)
اللحظات الأخيرة قبل بداية الرحلة إلى البرزخ
بداية أود أن أقدم لكم نفسي .. أنا أحد أبناء آدم من اللذين أنعم الله عليهم بالمعيشة الرغدة في الحياة الدنيا ... عشت طوال عمري الذي شارف على الانتهاء وبلغ السبعين سنة وبضعة شهور في نعيم دائم (مال وفير .. قصور مشيدة .. سيارات فارهة ... خدم وحشم .. ترف في الحياة) .. كل ما كنت أريده كنت أجده في لمح البصر .. كانت حياتي (وكنت أظن ذلك) أسعد ما يكون .. وأي شخص يتمنى أن يصل لربع ما وصلت إليه من مركز اجتماعي ومادي لدرجة أنني لم أكن أتوقع أن يوجد من هو أنعم مني على وجه تلك الأرض .. ولكنني على الجانب الآخر الأهم الذي خلق الله من أجله كل مخلوقاته لم أكن على مستوى ما أنعم الله به علي من نعم ...
فلم أكن أعرف لباب المسجد طريقاً إلا في ما ندر من المناسبات لزوم المركز الاجتماعي .. أو لغرض ما دنيوي بدون شك لكسب صفقة كبيرة أو ما شابه ... باختصار سبعون سنة وبضعة شهور نسيت خلالها أني عبداً لله سبحانه وتعالى ... سبعون سنة وبضعة شهور كلما زادت ثروتي وزاد النعيم أزداد بعداً عن الله سبحانه وتعالى .. سبعون سنة وبضعة شهور لم أنير خلالها وجهي بفتح كتاب الله العظيم إلا قليلاً لم أشعر خلالها بأي حلاوة في قلبي (وتلك مصيبة) ... وزيادة في تأكيد تلك النعم (أو كما اعتقدت أنا ذلك) أنني لم أذكر أنني ذهبت للدكتور إلا مرات تكاد تحصى على أصابع اليد الواحدة .. إلا أنني عانيت من الأمراض المستعصية خلال تلك الشهور الأخيرة التي تلت عامي السبعون .. وها أنا أستعد لاستقبال أول أيامي في الآخرة .. حيث أنني سمعت منذ دقائق معدودة من الطبيب يخبرني بأن أمامي (24) أربعة وعشرون ساعة فقط في عالم الحياة الدنيا .. وانقلب النعيم إلى جحيم ...
وكأني وجدت فجأة القصر الواسع الفسيح أصبح ضيق لا يكاد يتسع لجسدي .. مر شريط حياتي كله أمام عيني .. رأيتني وأنا في ريعان شبابي وأنا أتنعم في تلك الدنيا بلا حدود .. بحثت عن عمل خير فعلته في حياتي وكأنني أبحث عن إبرة في جبل قش .. ما العمل ياللمصيبة ... كيف سأقابل ربي بعد قليل ... ماذا ادخرت لهذا اليوم الذي لم أكن أتوقع ولا يخطر ببالي أنه سيأتي .. كنت طوال حياتي أصدق أي شئ .. كنت أعرف أن هناك يوم آخر .. كنت أؤمن أن هناك موت آت لا محالة ... لكن كنت كمن يتخيل أن كل العالم سيرى هذا اليوم إلا أنا ... وها أنا على بعد أربع وعشرون ساعة لاستقبال أول أيامي في الآخرة .. (24) ساعة .. إذا ما زال هناك أمل .. هكذا قلت لنفسي أو أوهمت نفسي اللعينة التي أوصلتني للهلاك .. أخذت أفكر ماذا يمكنني أن أفعل في تلك الساعات القليلة ..
ووجدتني أريد أن أفعل كل شئ يقربني إلى الله عز وجل في تلك الساعات القليلة ... أريد أن أتصدق في الساعات الأربع والعشرين كلها .. أريد أن أصلي في الساعات الأربع والعشرين .. أريد أن أذكر الله في الساعات الأربع والعشرين ... أريد أقرأ القرآن في الساعات الأربع والعشرون .. أريد أن أصوم الساعات الأربع والعشرون .. أريد أن أصل رحمي (الذي قطعته طوال سبعون سنة) في الساعات الأربع والعشرون .. أريد أن أعود مريضا .. أريد أن أسير في جنازة .. أريد أن أزور القبور في الساعات الأربع والعشرون .. أريد أن أحج في الساعات الأربع والعشرون .. أريد أن أعتمر في الساعات الأربع والعشرون ... باختصار أريد أن أكون عبداً لله في أربع وعشرون ساعة بعد أن عشت سبعون سنة عبداً لآلهة عديدة .. نسيت طوال حياتي أنني عبداً للواحد الأحد الذي يستحق العبادة دون غيره وتذكرت ذلك الآن وأنا على مشارف الموت وتسليم روحي وجسدي إليه ... عشت سبعون سنة عبداً للمال .. عشت سبعون سنة عبداً لهواي .. عشت سبعون سنة عبداً للصفوة من خلق الله .. عشت سبعون عبداً للشيطان ... سبعون سنة وأنا أتلو وأستمع إلى قرآن الشيطان وأشاهد المنكرات وكل ما حرم الله عز وجل .. سبعون سنة وأنا أستبيح كل حرمات الله وأسير إلى أوكار الفسق والرذيلة .. وأبذل من مالي الكثير من أجل الحصول على لحظات متعة زائفة وغير دائمة ..
ولم أتذكر يوماً أنني بذلت من مالي هذا (أقصد مال الله .. فلم أعي ذلك إلا الآن) وأنفقته في ما يستوجب النفقة فيه .. سبعون سنة وأنا أنهر المسكين والفقير إذا سألني جنيهات معدودة تعينه على فقره .. سبعون سنة عبداً مطيعاً للشيطان وأريد الآن أن أكون عبداً لله في أربع وعشرون ساعة فقط .. وأنا على تلك الحالة لم أرى من يعودني ومن يقف بجواري من رفقاء الحياة الذي أتوا ليلقوا النظر الأخيرة على ابن آدم طمعاً في بعض الآلاف من الجنيهات بعد مماته بل أسمع كلمات هنا وهناك لا أعرف من ينطق بها (ابن آدم يحتضر .. فلنلقي النظرة الأخيرة عليه .. وهذا يبدي تعجبه على حالي وغير مصدق أنني أرقد على فراش الموت .. وهذا يقول سيعرف الآن أن الله حق .. وصوت يأتي من هناك يقول إنا لله وإنا إليه راجعون ... وبكاء يأتي من هنا ونواح يأتي من هناك) وأنا لا أستطيع أن انطق بكلمة واحدة .. حاولت حتى أن أنطق بالشهادة حتى بقلبي ما دام لساني قد عجز عن الكلام ولم استطع .. ونظرت في السماء إلى لا شئ وكأنني وجدت كفتي ميزاني إحداهما تحمل جبل أسود من الذنوب والمعاصي لم أكد أرى آخره .. والأخرى خاوية تماماً .. وأنا على تلك الحالة أريد أن أفعل كذا .. وأريد .. وأريد .. وأريد ومن أين أبدا .. وأي الأعمال أهم .. وأي الأعمال تقربني إلى الله ، وأي الأعمال تخفف عني جبل الذنوب والمعاصي .. وأي الأعمال تخفف عني أموال الربا التي اكتسبتها خلال سنوات شبابي نحو الوصول إلى القمة في عالم المال والأعمال ..
وأنا على تلك الحالة وجدت أن الساعات الأربع والعشرون أوشكت على الانتهاء ولم أفعل أي شئ مما أردت فعله .. ياللمصيبة .. ووجدت رسل الله وهي آتية من بعيد .. ملائكة الموت .. تلك الملائكة التي لا يبشر وجهها بأي خير يترأسهم عزرائيل .. وتيقنت تماماً أن أولئك الرسل يرسلون فقط لقبض روح العبد العاصي الذي أفنى عمره عاش شبابه وشاب شعره وانحنى ظهره في الذنوب والمعاصي .. ياللمصيبة .. بماذا تنفعني أموالي الطائلة الآن ... هل أستطيع أن أشتري بها ركعة واحدة لله سبحانه وتعالى .. هل أستطيع أن أشتري بها حسنة واحدة تعينني على أهوال الآخرة .. هل أستطيع أن أرشي بها ملكاً في القبر لأخفف عني عذاب القبر ... لا .. لن أستطيع .. بل سأتركها ليتقاسمها غيري ويتنعم بها غيري حتى بدون أن يذكرني بكلمة شكر واحدة أو بدعاء بعد مماتي ... وللحديث بقية.
ابن آدم[/frame]
|