يعبر رجل سليم وبكامل صحته أبواب مستشفى به (خمسة) مرضى منومين ينتظرون متبرعين لزراعة أعضاء مختلفة. تشكيلة من الكبد والكلاوي والبنكرياس الخ. أنت صاحب القرار الأخير في هذا المستشفى فهل من "الأخلاق" أن تقوم بقتل هذا الشخص السليم وتوزع أعضاء جسده على هؤلاء المرضى الخمسة ؟
إذا كان جوابك "لا" وبدون تردد، فأنت تمثل معظم أو كل أبناء البشرية في ردة فعلك، فكيف نشأ وتوحد هذا الحكم الأخلاقي الدقيق في عقول جميع البشر على اختلاف دياناتهم ؟ سؤال يبدو ساذجا أليس كذلك ؟
حسنا، لنعقد الأمر قليلا. ماذا لو كنت تعيش في جزيرة مهجورة لم تقابل أحدا من البشر قط وعـُثر عليك صدفة وأتي بك إلى هذا المستشفى وطلب منك اتخاذ القرار السابق، (5) مقابل (1) ماذا سيكون جوابك ؟
من يستطيع الإجابة على هذه المعضلة؟ أخصائيو المخ والأعصاب أم الأطباء النفسيون أم الفلاسفة أم - كما يزعم ناوم تشومسكي - علماء الـ دي إن إيه ؟
ترتكز نظرية تشومسكي على فرض أن كل البشر يحملون في (جيناتهم) كل التراكمات الأخلاقية منذ بدء البشرية أو ما يسميه هو universal linguistic grammar مع التركيز على الدور المحوري للغة - نعم اللغة - في هذا البناء الغامض للأخلاق.
حسنا لننطلق مما وصل إليه تشومسكي ولننظر إلى ثنائية الأخلاق-اللغة
أولا: في اللغة العربية دعم لهذه النظرية:
قال ابن منظور في اللسان "والخِلْقةُ: الفِطْرة. أَبو زيد: إِنه لكريم الطَّبِيعة والخَلِيقةِ والسَّلِيقةِ بمعنى واحد. والخَلِيقُ: كالخَلِيقة؛ عن اللحياني؛ قال: وقال القَنانِي في الكسائي:
وما لِي صَدِيقٌ ناصِحٌ أَغْتَـدِي لـه .. ببَغْدادَ إِلاَّ أَنـتَ، بَـرٌّ مُـوافِـقُ
يَزِينُ الكِسائيَّ الأَغـرَّ خَـلِـيقُـه، .. إِذا فَضَحَتْ بعَضَ الرِّجالِ الخَلائقُ
وقد يجوز أَن يكون الخَلِيقُ جمع خَلِيقة كشعير وشعيرة، قال: وهو السابِق إِليّ، والخُلُق الخَلِيقة أَعني الطَّبِيعة.وفي التنزيل: وإِنك لَعلَى خُلُق عظيم، والجمع أَخْلاق، لا يُكسّر على غير ذلك. والخُلْق والخُلُق: السَّجِيّة. يقال: خالِصِ المُؤْمنَ وخالِقِ الفاجر."
قلت:
وقال الهذليّ:
ينزعن جلد المرء نزع القين ِ أخلاق المذاهب
وقال الأَعشى:
أَلا يا قَتْل، قد خَلُقَ الجَديدُ، وحُبُّكِ ما يَمُحُّ ولا يَبِـيدُ
فأرادا بها القـِدَم.
ثانيا: هناك الكثير من المفردات في اللغات المتطورة لا يوجد لها مقابل في اللغات البدائية. فهل تتوقع أن تجد في اللغة الكورية مثلا مقابلا لكلمة (خلق) الإباء ؟!
لا أريد أن أخوض في نقد العقل ودراسة خارطته من منطلق "عربي" ولكنني أقف مشدوها أمام واقع "العقل العربي" وأسره للغة وأسر اللغة له وهو الأخطر. سيشغب الكثير حول قداسة اللغة مستبطنين نظرية المؤامرة ولكنهم سيحارون أما التجربة الكورية (هههه مصر على الكوريين !) في بناء الإنسان وإنسان البناء.
هل اللغة عائق ؟
ثرثرة ليست بذات شأن
تحياتي