أحلام نووية
من أعجب ما يرى في زماننا : تسول أمم لأحلام أخرى ، وذلك مئنة من الإفلاس الفكري ، وهو أمر يظهر بوضوح في انتحال كثير من أبناء العالم الإسلامي لمشروع الدولة الفارسية النووي ، باعتباره مشروعا إسلاميا ، مع أنه ، باعتراف الجادين من أبناء الأمة الفارسية : مشروع قومي ، فليس مشروعا إسلاميا ، أو حتى إقليميا ، فحرص الدولة الفارسية على الحفاظ على هويتها العقدية والفكرية والسياسية أمر لا ينكره إلا غافل أو متغافل ، يريد أن يحيى ، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين ، حلما جميلا ، في زمن الكوابيس المعاصرة ، لا سيما مع خلو الساحة من بطل حقيقي ولو قومي فليس على الساحة إلا أشباح من الورق فليتهم كانوا أبطالا ولو من ورق ! ، فيستعير حلم غيره ، ليستمتع به ، فإن حاول أحد إيقاظه فإنه على طريقة الأفلام الكوميدية يثور في وجهه ، ويتناوم لعله ينجح في مواصلة الحلم الجميل ، وهو ، كما تقدم ، مجرد حلم لا حقيقة له ، فذلك من جنس حلم حرب تموز 2006 م فقد أبى كثير منا إلا أن يعيش حلما رفضت المقاومة اللبنانية نفسها مشاركة أبناء المنطقة فيه إلا بالهتافات فليس لهم دور أكبر من الدعاية لمشروع يباين في عقيدته عقيدتهم تباينا جذريا وهو أمر لا تنكره المقاومة بل تفخر به فليس إلا رأس حربة لما يسميه الأمين العام لحزب المقاومة : النظام الإسلامي الحقيقي الوحيد في المنطقة ! ، وما أشبه هذا الحلم النووي ، بالأحلام الكروية التي يعيشها كثير من المشجعين ، بمناسبة اقتراب كأس العالم ! ، فكثير منهم ، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين ، لا سيما في الدول التي فشلت في التأهل إلى النهائيات ! ، ينتحل ، أيضا ، جنسيات دول تشارك في النهائيات ، وغالبا ما تكون من القوى العظمى الكروية ، ليعيش وهم الانتصار الذي يصل إلى حد التفريط في كثير من معاني الولاء والبراء الشرعية ، بل حتى الوطنية ، فترفع أعلام الدول على أسطح المنازل ، وتحتشد الجماهير في المقاهي ، لتعيش حلما ، على تفاهته ، ليس حلمها ، وإنما هو حلم جماهير أخرى ، يأنف كثير منها أن يشاركهم العرب أحلامهم ، بوصفهم من دول العالم الثالث إنسانيا وكرويا ! ، فالإفلاس في كلتا الصورتين ، واقع ، وإن كان وقوعه أظهر في الصورة الأولى فالفارق بينهما كبير وإن كان الإشكال فيهما واحدا .
وعموما فإن الدولة الفارسية ومفكريها قد كفونا مؤنة التمسح بإنجازاتهم ، بتأكيدهم المستمر على الهوية الفارسية في مقابل الهوية العربية ، إذكاء للصراع المحتدم بين القبيلين من لدن بعثت النبوة الخاتمة في العرب ، فزحفت جيوشها على الإمبراطورية الفارسية برسم الفتح الذي اعتبره الفرس احتلالا ! ، والتاريخ ، كما اطرد في مثل هذه المواضع ، شاهد عدل لا يكذب ، فهو شاهد بما رفعه الفاتحون من مظالم عن كاهل أبناء الأمة الفارسية التي سامتها الدولة الكسروية سوء العذاب كحال أي ملك جائر لا يمت للنبوة بصلة ، وأحد المفكرين الفرس المعروفين يتبجح بنجاح الحضارة الفارسية ، بزعمه ، في احتواء الإسلام ، فإسلام النص الجامد قد نزل في الجزيرة العربية ، وإسلام الأسطورة ! ، قد نما وازدهر في بلاد فارس ، وهو بالفعل مجموعة من الأساطير ! ، فاعتبر أن نجاح الحضارة الفارسية في تفريس الإسلام ، إن صح الاشتقاق ، علامة قوة وأصالة ، فلم ينجح الإسلام بمقرراته الفكرية العميقة في غزو قلاع الثقافة الفارسية الشامخة ، بل على العكس نجحت الثقافة الفارسية في احتواء الإسلام ، وتهذيبه ، وتقريبه إلى العقلية الفارسية وفق معايير تناسب العنصرية الفارسية التي انتحلت مذهبا استأثرت به بخلاصة الرسالة الصحيحة ، فما عدا مقررات مذهبها ليس إلا محض ابتداع وإحداث في الدين ، فأئمة الجور من الراشدين ! ، ووعاظ السلاطين زمن الأمويين والعباسيين ...... إلخ مرورا بالحركات الفكرية الإصلاحية كحركة ابن تيمية ، رحمه الله ، ومن بعده حركة محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، أولئك هم من ابتدع في الديانة الصحيحة التي ضل عنها الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، إلا آحادا مقهورين ، ثم اهتدى لها المنظرون للثورة الفارسية الأخيرة ، وفي ذلك ما لا يخفى من القدح في أصل الدين ، والقدح في مقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلك كمبلغ عن ربه ، جل وعلا ، ومرب ، صنع جيلا من الرجال تفاخر أمة الإسلام كل الأمم به ، بل وفيه ما لا يخفى من القدح في الحجة الرسالية بتجويز اجتماع الأمة على ضلالة ، وتواطؤها بأكملها على الكتمان ! ، وهو أمر يخالف قياس العقل الصريح بغض النظر عن مناقضته لأصل الديانة ، فتجويز وقوعه قدح في أصل إسناد الديانة ، ولا ثقة ، بل لا قيمة لإسناد سقطت أولى طبقاته بتجريح رجالها جرحا عاما قد بلغ حد التكفير والتخوين ، ولذلك تتباين اتجاهات الغزو الفكري لأعداء الإسلام ولكنهم يتواطئون غالبا على القدح في الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، فإسقاطهم في أعين المسلمين إسقاط للديانة فيحسم الإشكال ابتداء ويكفى الطرفان شر القتال ! .
مع أن الصحيح هو عكس ما ذهب إليه هذا المفكر الفارسي المعتز بقوميته اعتزازا يفوق اعتزازه بدينه ولو على ما تصوره وانتحله من مذهب يخالف مذهب الجماعة ، فالإسلام ، بمتانة أصوله الفكرية ، نجح في غزو قلاع النصرانية في بلاد كمصر والشام ، ونجحت لغته في غزو قلاع الآرامية والقبطية والبربرية في الشام ومصر والمغرب ، ولا يجد مسلم بل عاقل في نفسه حرجا من ذلك ، فإن العقلاء مجمعون على وجوب تحري الحق بدليله ، ومن نظر في أدلة صحة الديانة وعلامات صدق الرسالة الخاتمة ، بإنصاف وتجرد في طلب الحق بلا حظ نفس ، فإن ذلك يورثه علما جازما يبلغ حد اليقين بصحة هذا الدين ، فإذا علم أن الحق في اتباعه ، فألهم ذلك ، فما عليه أن يهجر لأجله إرثه الفكري الأول برسم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وهذا أمر ظاهر في حال كل طلاب الحق من سائر الملل والألسنة والثقافات ، فإن من اعتقد صحة طريقة الإسلام ، فإنه يكون من أحرص الناس على تعلم مبادئ الإسلام الإجمالية ، بل وأحكامه التفصيلية ، ولسانه العربي ليدرك معاني التنزيل ، ويصحح عباداته من صلاة ونحوه ، بإجادة القراءة الواجبة والأذكار التوقيفية من تسبيح وتحميد ........ إلخ ، ولا يشعر مع ذلك بأنه خائن للحضارة التي ينتمي إليها بحكم النشأة والتربية ، فالأمر ، كما تقدم ، يفتقر إلى الإخلاص والتجرد ، فالحق مراد كل العقلاء ، أيا كان زمانه أو مكانه أو لسانه .... إلخ ، ولذلك لم يشعر عامة المصريين بالخيانة الحضارية لما اعتنقوا الإسلام وتعلموا العربية فصارت لسانهم الرئيس ، بل قد تعلمه النصارى الذين اختاروا البقاء على نصرانيتهم ، وذلك لا يكون بداهة إلا اختيارا ، فلا يتصور أن العرب الغزاة ! ، كما يروج أولئك وأذنابهم من العلمانيين ، قد قهروهم على تعلم العربية وهجر القبطية ، ولم يقهروهم مع ذلك على اعتناق الإسلام ! ، بل قد استرد كثير من رءوسهم مناصبهم الدينية بعد أن كانوا مطاردين إبان الحكم النصراني الكاثوليكي الروماني لمصر ، والتاريخ شاهد عدل في تلك المضائق ، كما تقدم ، فلا يجامل أحدا لدينه أو لسانه أو قوميته .... إلخ ، وبقي للقبطية وجود رمزي إلى يوم الناس هذا ، كلغة شعائر ، بل أغلب الأناجيل المتداولة الآن في مصر هي عبارة عن ترجمات عربية ، فلا يجيد الشعائر القبطية إلا القساوسة والكهان ، فاللسان العربي باستقامته وثرائه اللفظي قد فرض نفسه على أهل البلاد المفتوحة ، دون جبر أو إكراه ، فدين الإسلام دين : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ، فكيف يكون الإكراه في اللغة ؟! .
وقل مثل ذلك في المغرب ، فالبربر ، مع اعتزازهم الشديد بقوميتهم التي تأبى الخضوع لمحتل أو فاتح ، وصراعهم مع الرومان الغازين ثم مع المسلمين الفاتحين خير شاهد على ذلك ، فلم ينجح الرومان في فرض دينهم أو لسانهم على البربر ، وعانى الإسلام عسكريا وفكريا حتى انقاد البربر له ، ولم يكن ذلك بداية عن اقتناع فخاض الطرفان صراعا مريرا من زمن الفتح العسكري بقيادة عقبة بن نافع ، رحمه الله ، إلى زمن الفتح الفكري ، إن صح التعبير ، في ولاية إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، رحمه الله ، والي الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله ، فقد نجح في فتح قلوب البربر فحصل الانقياد التام لدين الإسلام ، وبقي للبربر خصوصيتهم الثقافية ، وبقيت الهوة بين البربر والعرب ، فتارة تضيق وتارة تتسع ، فهذا أمر لا ينكره أحد ، ولا زالت آثاره إلى يوم الناس هذا ، ولكنه في الماضي لم يكن صراعا بين البربر والإسلام ، كما قد روج المحتل في الأعصار المتأخرة ، فلم يجد البربر ، أيضا ، غضاضة في اعتناق الإسلام وهجر إرثهم الديني الوثني ، بل إن صراعهم مع العرب ، قد اتخذ بعدا دينيا ، فكانوا يلحون في طلب المساواة مع العرب استنادا إلى نصوص شرعية محكمة من قبيل : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، و : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى" ، لا سيما زمن الدولة الأموية التي عرفت بميلها إلى العصبية العربية ، دون بقية العصبيات ، بل إن ذيوع مذهب الخوارج في تلك الأصقاع ، بداية من عهد الخليفة هشام بن عبد الملك ، لما ازداد اضطهاد الولاة العرب للبربر ، لم يكن إلا استنادا إلى نصوص شرعية ، وإن أساءوا فهمها وتأويلها ، فراق لهم مذهب الخوارج في المشرق الذين لم يشترطوا القرشية في الخلافة ، وإنما جوزوا تولي غير القرشي إمامة المسلمين العظمى ، وذلك قول باطل ، فهي حق للقرشي الكفء إن وجد ، كما قد أثر عن الصديق رضي الله عنه فــ : "لَنْ يُعْرَفَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا" ، والشاهد أنهم مع انتحالهم لهذا المذهب الباطل لم ينصبوا العداء للإسلام نفسه ، بل كانوا قبل انتحاله جندا مخلصا للإسلام لا سيما زمن الفتح الإسلامي للأندلس فكان عامة الجند بربرا وكان القائد من البربر ، وكان الرائد الأول الذي لم يكذب أهله : طريف بن مالك ، رحمه الله ، من البربر ، وبعد ذهاب سكرة هذا المذهب الذي انحسر بعد ذلك فليس له في زماننا إلا وجود محدود في جبال وصحارى المغرب العربي ، بعد ذهاب سكرته غلب الإسلام ، والمدرسة المالكية تحديدا على عموم تلك الأنحاء ، ولم ينجح العبيديون في فرض المذهب الإسماعيلي الإلحادي على قبائل المغرب إلا قبائل بعينها لغلبة الجهل عليها كقبيلة كتامة الجناح العسكري ، إن صح التعبير ، للحركة العبيدية الإسماعيلية في المغرب ، واسترد الإسلام عافيته مرة أخرى في تلك البلاد بظهور الحركات الإصلاحية كحركة الشيخ عبد الله بن ياسين ، رحمه الله ، التي نجحت ، مع ما عليها من مؤاخذات شرعية في بعض تفاصيلها الجزئية ، في إحداث صحوة إسلامية كانت سببا رئيسا في ظهور دولة المرابطين كقوة مغربية بربرية ساهمت في إنقاذ الإسلام في الأندلس ، بعد انهيار الخلافة الأموية في دورها الثاني ، وكان الصراع بين العصبيات أيضا سببا رئيسا في إضعافها ، ولكنه ، لم يكن صراعا دينيا ، بل كان صراعا سياسيا عرقيا ، فقد نجح المسلمون عربهم وبربرهم في فتح الأندلس وترسيخ قدم الإسلام فيه ، ولكنهم نقلوا صراعهم العرقي من المغرب إلى الأندلس ، فكان الصراع بين العرب والبربر في الأندلس فرعا عن صراعهم في المغرب ، وكان بعض ملوك الطوائف بعد سقوط الخلافة : عربا كبني عباد أصحاب إشبيلية وبني هود أصحاب سرقسطة ، وبعضهم : بربرا كبني ذي النون أصحاب طليطلة وبني مناد أصحاب غرناطة ، وكان بينهم من الحروب والدسائس ما قد علم ، ولكنهم لما أحسوا بخطر نصارى الشمال بعد سقوط طليطلة سنة 478 هـــ ، لم يجد معظمهم حرجا في الاستنجاد بالبربر المغاربة ، بل كان أول الداعين إلى ذلك المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وهو عربي عريق النسب ، فالصراع بين القبيلين كان دائما تحت مظلة الإسلام ، وهو وإن كان مذموما شرعا ، إلا أنه واقع كونا ، بمقتضى سنة التدافع ، وهي سنة تقع بين الجماعات بل والأفراد ، بل وتقع بين أبناء الحي الواحد ، والبيت الواحد ، بل وتقع بين أهل العلم قديما وحديثا ، مع أنهم في جملتهم : أبعد الناس عن التعصب والانتصار للنفس ، ولكنها ، كما تقدم ، سنة كونية نافذة ، فليس الإشكال في وقوعها ، وإنما الإشكال في تضخيمها وتقديمها على معقد الولاء والبراء الأول وهو : الديانة ، وهذا ما نجح المحتل في استثماره في بعض مناطق البربر ، وصار نشاط الحركات التنصيرية هناك يعتمد في جملته على نسبة تقصير العرب في حق البربر إلى الإسلام نفسه ، فالعرب الفاتحون هم الذين يمثلونه ، فتحول الصراع بين البربر والعرب إلى صراع بين البربر والإسلام ! ، ولكي يتم الانفصال الفكري التام بين القبيلين لا بد من انتحال عقيدة غير عقيدة المخالف ، فتصير الفرقة : فرقة لسان وفرقة دين ، وهي الأخطر ، فإنه لا إشكال في فرقة اللسان ، بل إن الإسلام كان ولا يزال بعالمية رسالته يضم قوميات وألسنة شتى ، بل المأثور عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، اعتبار الفوارق الثقافية ، إن صح التعبير ، بين قريش وبقية القبائل ، فكان يكلم كل قوم بلسانهم ، ويستعمل عليهم أحدهم ، لئلا يشعروا بالغربة ، أو يستوحشوا من قيادة لا تعرف أحوالهم لعدم اطلاعها على عاداتهم وأعرافهم ، فنجحت دعوة الإسلام في جمع شتات القلوب ، وكانت تلك منة عظيمة من الرب ، جل وعلا ، على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فــ : (إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، والشاهد أن النصرانية التي يروج لها الآن في أوساط البربر هي : نصرانية سياسية تسعى إلى إحداث الانقسام في المجتمعات الإسلامية في تلك البلاد ، بإحداث فارق جوهري ثان بل أعظم بين العرب والبربر وهو : فارق الدين ، فينضم إلى فارق اللسان ، فيقع التباين التام بين القبيلين وذلك مما يؤجج الصراع داخل المجتمع الواحد ، ويسهل انقسامه ، أو تقسيمه ، وهو عين ما يجري الآن على قدم وساق في جنوب السودان ، فليست نصرانية الجنوب ، ونسبة النصارى هناك لا تتعدى 17 % في مقابل 23 % للمسلمين ونحو 60 % للوثنيين ، ليست إلا نصرانية سياسية تم توظيفها جيدا مع فارق اللسان بين الشمال العربي والجنوب الإفريقي ، وبقية الفوارق الثقافية لاختلاف العادات والقبائل ....... إلخ ، لتقسيم السودان ، كما قد يقع في استفتاء يناير القادم ، لا قدر الله ، ونفس المخطط يتم تنفيذه في مناطق كدارفور ، فأهلها مسلمون ، ولكنهم أفارقة يعانون ، أيضا ، من تقصير العرب في حقهم ، ففارق اللسان والثقافة لا يكفي لتأليب الدارفوريين على الحكومة المركزية ، لأن الإسلام ، كما تقدم ، وعاء جامع لسائر الثقافات والألسنة ، فلا بد من ترويج ديانة جديدة لينضم الفارق الديني إلى الفارق اللساني ، فيسهل فصل الغرب بعد الانتهاء من فصل الجنوب ، وهو ، أيضا ، عين ما يجري في بلاد النوبة في مصر ، فقبائل النوبة : قبائل إسلامية تعاني ، أيضا ، من إهمال الحكومة المركزية ، التي أهملت العرب والعجم وسائر أجناس البشر ! ، ولها خصوصية ثقافية ولسانية ، فإذا انضم إليها دين جديد يباين دين الدولة الرئيس ، وهو ما تقوم به الإرساليات النصرانية والإنجيلية تحديدا الآن ، فإن ذلك ، أيضا ، يسهل تقسيم مصر ، والمخطط ، كما قد سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع أخرى ، يهدف إلى إنشاء جدار عازل بين الشمال العربي المسلم والجنوب الإفريقي ، بخلق حزام نصراني إنجيلي تحديدا ، بين الشطرين ، لا سيما بعد فشل الكنيسة في إيقاف الزحف الإسلامي جنوب الصحراء في دول كبيرة كنيجيريا التي يشكل المسلمون فيها نحو 65 % من السكان ، ولعل ذلك سر نشاط الإنجيليين البروتستانت تحديدا دون سائر طوائف النصارى ، فالمخطط يخدم مصالح الطبقة الإنجيلية التي سيطرت على مراكز صنع القرار في أمريكا ، بوصفها القوة العظمى الوحيدة الآن ، وهي تصب إجمالا في قناة المصالح الصهيونية فمقرراتها تتلاقى مع مقررات الصهاينة في نقاط كثيرة ، أبرزها : تصفية الوجود الإسلامي في أرض الميعاد وأجوارها ، والتمكين ليهود في الأرض المقدسة . وتلك أيضا نصرانية من جنس النصرانية السياسية الأرثوذكسية التي روجت لها الكنيسة المصرية في الآونة الأخيرة في ظل قيادة جماعة : الأمة القبطية ، ذات المصالح الشخصية والتعصب الأعمى ضد الإسلام وأهله ، فقد انقلبت على قيادة سابقة ، كانت على أقل تقدير مخلصة لمقررات الدين الذي تمثله ، بغض النظر عن صحته أو بطلانه ، فهي تناصب الإسلام والعربية ، أيضا ، العداء ، ولكنها إجمالا ، لا تقوى على مناهضة نفوذ اللسان العربي في مصر ، فهو لسان أهل الملتين ، فراحت تغذي الفارق الرئيس الثاني وهو : فارق الديانة ، في تعصب مقيت ، ضج منه حتى عقلاء النصارى ، لما أحدثه من شرخ اجتماعي عميق الأثر بين أبناء البلد الواحد ، وهو شرخ متعمد يهدف إلى تكريس الانفصال الاجتماعي بين الطائفتين تمهيدا لإحداث الانفصال السياسي وهو ما يروج له الخونة من أقباط المهجر في أمريكا التي احتضنتهم كعادتها في إيواء كل محدث ، لتستعملهم كورقة ضغط فاعلة على مصر ، فقلاقل مستمرة ببث أراجيف الاضطهاد الديني والتمييز الطائفي ....... إلخ ، وهي ، إسطوانة مشروخة ، كما يقال عندنا في مصر ، من جنس الإسطوانة الطائفية المشروخة في العراق تمهيدا لقبول الغزو الأمريكي برسم التحرير ! ، فلم تأت أمريكا إلى العراق إلا لترفع الظلم عن طائفة مضطهدة كان النظام السابق يستهدفها ، فمهمتها إنسانية بالدرجة الأولى ! . وجنوب العراق الآن : نموذج آخر لتلك الثنائية الفارقة : ثنائية الدين واللسان ، فقد نجح الفرس حتى قبل غزو أمريكا في اختراق الجنوب فكريا ، فنشروا مذهبهم الذي يلائم نزعتهم العنصرية بين العرب ، مع ما يعانيه أبناء المذهب من العرب من تمييز ، فذلك أمر قد ركز في النفسية الفارسية العنصرية فلن تسوي العرب بالفرس أبدا وإن تابعها العرب في مذهبها الفكري لأنهم باختصار لا يمكن أن يكونوا فرسا في يوم من الأيام لاختلاف العرق وهو اختلاف لا يقبل التعديل بداهة ! ، ثم سقط الجنوب تقريبا في قبضة الفرس بعد الغزو الأخير ، فغلب لسانهم على اللسان العربي ، بمقتضى سنة التدافع القديمة بين القبيلين ، حتى صارت الوثائق الرسمية في بعض مدن الجنوب الكبرى تكتب باللغة الفارسية ، كما يذكر ذلك بعض الفضلاء من المهتمين بالشأن العراقي ، فليس المذهب هنا ، أيضا ، إلا غطاء دينيا لمشروع سياسي بالدرجة الأولى ، وهو مشروع قومي عنصري لا يمكن للعرب أن يكونوا جزءا منه ، بل غايتهم أن يكونوا أبواق دعاية له ، بالهتافات القوية والشعارات الحماسية كما قد وقع في حرب تموز 2006 م ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، فلم ترد المقاومة اللبنانية لعموم المسلمين في دول الجوار إلا أن يكونوا غطاء إعلاميا لعب دورا كبيرا في تلميع المذهب وقياداته ، وتخفيف الوطأة عنه بعد افتضاح أمره آنذاك ، لما كان يجري في العراق على قدم وساق من تصفية منظمة لأهل السنة ، باستهداف القيادات والكفاءات الشرعية والعلمية وتهجير قسم كبير من أبناء الطائفة هجرات داخلية إلى مناطق أخرى من العراق كالغرب ، أو هجرات خارجية إلى دول الجوار .
والشاهد أن ثنائية : الدين واللغة : هي الثنائية التي يحصل بها التمايز بين الأمم ، ولم يجد يهود ، مع تشرذمهم وتنوع قومياتهم ، بدا من انتحال العقيدة اليهودية عقيدة رسمية ، وبعث العبرية من مرقدها ، وهي التي انقرضت من القرن الرابع الميلادي تقريباا فلم يكن لها وجود إلا في المؤلفات الأدبية ، والنقوش الأثرية والصلوات التوراتية ، فكانت لغة ميتة لا وجود لها إلا في بطون الكتب قبل أن ينشط أصحابها في القرن التاسع عشر لبعثها تمهيدا لإقامة كيانهم المستقل دينيا وثقافيا عن بقية شعوب المنطقة ، بل وشعوب العالم بأسره ، على ما قد عهد منهم ، أيضا ، من عنصرية مقيتة ، تفوق عنصرية الفرس ، فتاريخهم سلسلة من مظاهر العزلة الفكرية والمكانية عن بقية البشر ، فلا يعيشون إلا في أحياء منعزلة ، كما قد علم من حالهم في مصر في حارة كحارة اليهود في القاهرة ، كما مثل بذلك بعض الفضلاء المعاصرين ، وسلسلة من المؤامرات على أديان وأخلاق الأممين .
وتبني كل أمة لمشروع فكري أو ثقافي أمر مشروع بمقتضى السنة الكونية : فتدافع المشاريع الفكرية أمر لا مناص منه ، فــ : (لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) ، وإن رغم أنف أصحاب نظرية حوار الحضارات المزعوم ، فليس ثم إلا صراع أو هدنة مؤقتة ، فللغرب مشروعه الفكري الذي حشد له الأجناد عسكريا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا ...... إلخ ، وللفرس مشروعهم الفكري الذي برز إلى الوجود بروزا ظاهرا بعد ثورة 79 ، وبعد غزو العراق الأخير ، وكل مشروع يمثل حلما جميلا لصاحبه يسعى إلى تحقيقه ، وذلك ، بمقتضى سنة التدافع آنفة الذكر ، أمر طبيعي ، ولكن الأمر غير الطبيعي أن يعمد مفلس ليس له أي رصيد تقريبا في بنك الواقع فيقتبس حلم غيره ، أو يتسول مشاهد منه ، إن شئت الدقة ، كما هو حال العلمانيين الذين تسولوا مشروعهم من فتات موائد الغرب الفكرية ، فالعلمانية منتج غربي خالص ، لا يصلح ، إن كان فيه وجه صلاح ابتداء ، إلا لمن ابتكره ، وكما هو حال المخدوعين بثقافة المقاومة والممانعة المزعومة ، فإنها لا تمثل الجمهرة من المسلمين أو حتى العرب ، فلا تصلح بحال لتكون معقد ولاء وبراء تلتف حوله شعوب المنطقة ، التي تعاني الآن من الإفلاس الحضاري مع كونها الوحيدة التي تملك إرثا دينيا صحيحا لا يقاوم ، فمعها أعظم أدوات الحضارة الإنسانية الحقيقية ، حضارة الدين والأخلاق ، فحالها كما قال الشاعر :
كالعيس في البَيْداء يقتلها الظما ******* والماء فوق ظهورها محمول .
ولا شك أن رواج هذه المشاريع الفكرية المنحرفة في كثير من بلاد المسلمين برسم البطولة التي يصدق الواقع المرئي ، على أقل تقدير ، جزءا منها ، وإن كانت بطولة تصب في قناة مشروع فكري يباين معتقد السواد الأعظم من المسلمين ، فالخلاف بين المذهبين عميق ، بل يكاد يكون كاملا ، وإن هون من شأنه من هون ، ولعل حال أهل السنة في العراق خير شاهد على ذلك ، فإن الخلاف السائغ لا يستدعي سفك الدماء وانتهاك الحرمات ! ، لا شك أن هذا الرواج مع الآلة الدعائية الإعلامية الفعالة التي تحسن الاتجار بقضية المسلمين الأولى ، قضية البيت المقدس وأكنافه ، وغزة منها ، بطبيعة الحال ، لا شك أن هذا الرواج مع خمول ذكر القيادات الرسمية في كل بلاد المسلمين تقريبا ، وانسياق كثير من أهل العلم وراءهم ، بعد أن تضخمت آلات السمع والطاعة لأمراء المؤمنين المعاصرين عندهم ! فصار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بضوابطه الشرعية ، مظنة التطرف ومئنة من انتحال طريقة الخوارج ، فلا حسبة لأهل الحل والعقد من العلماء إلا ما رحم الرب ، جل وعلا ، لا شك أن هذا الرواج الإعلامي لأي فكر منحرف ، في بيئة خاملة تفتقر إلى قدوات شرعية صحيحة المعتقد والمسلك ، راسخة العلم لا سيما في زمن الفتن والنوازل التي تذهل فيها العقول ، مجردة من حظوظ النفس ، لا شك أن هذا الرواج أمر طبيعي ، بل الطبيعي ألا يقع .
وقد صارت أوروبا ، كما يذكر بعض الفضلاء المعاصرين ، متنفسا لمن أراد نصرة أهل غزة ، فمؤتمرات المناصرة ممنوعة في أغلب بلاد المسلمين ، ولجان التبرع شبه معطلة ، والأفواه مكممة ، والأيدي مقيدة ، فلا دور لأغلب المنابر الدعوية أو حتى المدنية من نقابات أو جمعيات خيرية ..... إلخ ، بخلاف دول أوروبا التي تنشط فيها مؤسسات المجتمع المدني ، ولو من منطلق إنساني بحت ، على طريقة من نقض صحيفة المقاطعة لبني هاشم وبني المطلب ، من كفار قريش ، فعندهم وعند كثير من كفار اليوم ، مروءة تفوق مروءة كثير من المسلمين ، وهو أمر يستوجب الشكر بمقتضى العدل فهو واجب للموافق والمخالف ، بل الموافق في زماننا قد استوجب بمقتضى العدل أيضا : الذم والهجر ، وكثير يتساءل في ظل هذه الأزمات عن سر : ذيوع التطرف والغلو في مجتمعات المسلمين ، فيفوته أن ذلك هو رد الفعل الطبيعي بمقتضى ما جبل عليه البشر من دفع الغلو بغلو آخر يضاده في الاتجاه ، فمن غلو في التخاذل إلى غلو في الاحتساب والإنكار على أهل الزيغ دون مراعاة للضوابط والقيود الشرعية ، والمصالح والمفاسد المعتبرة ، ودون إرشاد من أهل العلم ، لغيابهم اختيارا أو اضطرارا ، لأصحاب النفوس الحائرة إلى واجب الوقت الذي تحصل بامتثاله المصلحة الشرعية فلا يقع التهارج داخل المجتمع المسلم لما تسببه تلك النوازل من ضغط عصبي شديد يؤدي غالبا إلى وقوع الشر وذيوع الفوضى .
وحال مجتمعاتنا الآن : فرصة كبيرة لكل مدع للبطولة لينال تأييد الجماهير التي اشتاقت إلى المخلص ! .
وإلى الله المشتكى .
آخر تعديل حامد السالمي يوم 05-19-2010 في 10:48 AM.
|