اشجار العدن
من أودية (هرابه) من (ملاكي) و (جورى) ومن رؤس وادي بلاج وضمد والدحن ...رأيت يوما ما شجيرة متفردة بكبريائها المتواضع بصبرها اللامستنفذ وأعجبني ساقها( البلقيسي) كساق حسناء يعلو الى مجاهل غامضه وأعجبني أكثر ضحكة أزهارها في سواد تلك الصخور العصيه
سألت عنها فقالوا انها تسمى ( العدن) بحروف مفتوحه على وزن زمن...(وآه يا زمن). ولأنها تخرج عبر الصخور كشهقة عاشق بين الضلوع فقد أنتزعت منها أثنتين ..انتزعتهما وأنا أعتذر لهما..وأعتذر للنبع والبشام وشجر المض المحيط بهما وأعتذر أكثر للفضاء الفسيح الذي شطره طريق الأسفلت ..وغدت تلك الحزون العصية مباحة للعبث.
وحملت تلك (السبيتين ) إلى مدينة جده.. وفي مركز الحمراء أستوقفتي عسكري غض ..وقال على طريقة أحمد السيد..على جنب يا طيب .
وبدأ ينبش داخل أمتعتي.
ــ خير ايش فيك
ــ ما هي هذه الهيجه؟
وكان عسكري آخر أكبر سناً قد وصل ..(والعسكر يتشابهون ) وضحك عندما عرف شجرتي العزيزة.. (العسكر يضحكون أيضا) ..ومضيت .
وزرعتهما في جده وحيدتين في حديقة الدار يحدوني آمل ضئيل بأنهما ستحييان وأنهما ستجتازان غربة المكان وكنت اعرف انهما ستبكيان كل ليلة (كما بكيت انا ليال كثيرة)..وانهما لن تسمع بعيد اليوم مووايل الصبايا ولا بروق العشايا ولن تضحك لمقدم أمطار الخريف..الخريف الذي تظل تنتظره عاما بعد عام بعد عام حتى يجيء. .
قاومت هاتان الشجرتان وجع الغربة ورطوبة جده والحنين الى الحزون البعيده .. وكل مساء كنت أعتذر لهما عما فعلت بهما كنت أتحدث اليهما .. أسألهما اسرار الحباطه..وعهد النجوع والزمن الجميل كنت أشاطروهما التشظي وألم البعاد.
و عاشتا دون ضجيج أو شعور بالنفي أوبالحقد .. الشجر لا يعرف الحقد..مخلوق
وحيد في هذا الكون يعرف الحقد: الأنسان.
وعاشتا بأغصان مرفوعة نحو الفضاء الفسيح ..وذات صيف فاجئتني بزهرة وحشية الجمال...زهرة لم تتفتح تحت سماء جدة من قبل ..زهرة أشبه بزهرة (الأقحوان) ..لكنها اجمل..أجمل والله
وبالطبع أثمرت ,أنبتت شجيرات (عدن) صغيره..توزعت هنا وهناك ..في مدينة جده حتى غدت تباع في المشاتل وفي الحدائق دون أن يعرف احدا اني انا اول من انتزعها من تلك الحزون الجميله ودون أن يعرف لها أسم مع كل الاسف .
ورافقتني في جدة عشرين عاما أو ما يقرب ذلك ..وغدت جزأ من باحة الدار ..وجزأ من ذاكرة المكان .
غير أني ما لبثت أن أنتقلت الى الرياض..وعز علي أن أترك شجرة العدن وحيدة تتسآل عن سر الفقدان ..فحملت منها أثنتين الى الرياض..وزرعتهما من جديد وأنا أعتذر لهما مرة أخرى عن ألام النفي .. وأدلل لهما بقدري أنا وبالمصائر والعذابات وبمحدودية أرادة ألانسان ...ومرة أخرى تشبثتا بألارض كطفل الخطيئه .. وكبرتا ..لكني ما لبثت أن غيرت داري الى جانب آخر من الرياض الى شقة تتربع على مسافة بين الأرض والسماء في شقة عالية في بناية عاليه..وتحت سماء عالية لا ملامح لها ..ملاح مدينة الرياض .
.. ومرة أخرى انتزعتهما وأنا أعتذر لهما ولم تعودا تتسآلأن كانتا مثلي قد أدمنت الرحيل .
ووضعتهما هذه المرة في أنائيين فخاريين حيث لا تراب سوى الشرفة العاليه
ووضعتهما هناك ..أسقيهما وأتعهدهما كرفيقتين حملتهما معي زمناً طويلا..وشاركتهما حكايات أماسي الخريف و(والش) العصاري ونشيد الرعاة الجميل وشاركتني وجع التساؤل عن آخر الترحال وعن آخر المطاف وأمر من كل ذلك سألتني عن الحصاد.؟
لكني عجزت عن الأجابه وعن زرع جذور أخرى في الرياض..ربما هو العمر..ربما هي الرياض التي لا ترحب بالقادمين الا بعد زمن..وهل بقي في العمر متسع...؟
وهما ايضا لم تكبرا هذه المرة ولم تزهرا..وبقيتا حبيستين لأصيص الزرع..تنتظر مني رحيل آخر..وأنا انتظر منهما ضحكة لم تجىء.
سافرت الى القمري العصية على النسيان..سافرت للعيد وللأصدقاء ولدوحة القلب..
وعندما عدت وجدت احدى شجر العدن تبكي..الشجر يبكي..ويالحزن الأشجار..
ووجدت اخرى تموووووووووووووووووووت.
وماتت ..ثم ماتت الأخرى وأمسى الأصيص فارغاً كشهقه.
وخفت ان أبقى في الرياض فأموووووووووت
وغادرت الى سماء آخرى ..الى فضآت أخرى ولكن دون شجر.
منقول
آخر تعديل مشهور الطلحي يوم 07-15-2010 في 09:16 PM.
|