علم الأنساب مابين الإفراط و التفريط
الحديث عن علم الأنساب حديثٌ ذو شجون ، وبحر متلاطم عجز عن إدراك قاعه الباحثون ، وتهيّب في خوض لجته العارفون ، وتهاون في الإفتاء فيه الجاهلون ، حتى استحال من كونه وسيلة إلى غاية تتناهى العقول والأفهام في البحث عن دقائقه ، والتفتيش في رواياته بغض النظر عن جودة فهم القارئ ، وعن التثبت في صحة المروي، و عن الاستفصال عن عدالة الراوي .
وانقسم الناس في هذا الزمن في هذا العلم إلى طرفين وندر الوسط ، أما الطرف الأول فقومٌ اتخذوا هذا العلم ذريعة للطعن في الأنساب ، وإحياء النعرات القبلية ، وهذان مزلقان خطيران حذر منهما النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : (( أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة )) ، وقلّ للآسف في هذا الزمن من يسلم من هذين المزلقين ، فانبروا لأنساب الناس طعناً وتقسيماً وتحقيرا ، دون النظر في الغاية العظمى والأسمى لهذا العلم المتمثلة في قوله صلى الله عليه وسلم : (( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم )) ، وكأنهم لم يعلموا أن الخوض في أعراض الناس من الكبائر ، والطعن في أنسابهم أكبر وأخطر ، فلماذا نورط أنفسنا في أمور لن نسأل عنها يوم القيامة ؟ أليس السكوت أسلم ؟ فإن دعت الضرورة إلى الجرح والتعديل فلا بد من التثبت الشديد في النقل ، وعلى العاقل ألا يغتر بالكلام المتناقل بين الناس .يقول الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله - : والجماهير دائماً أسرع إلى إساءة الظن من إحسانه ، فلا تصدق كل مايقال ولو سمعته من ألف فم ، حتى تسمعه ممن شاهد بعينه ، ولا تصدق من شاهد بعينه حتى تتأكد من تثبته فيما شاهد ، ولا تصدق من تثبت فيما يشاهد حتى تتأكد من براءته من الهوى والكذب ، ولذلك نهانا الله عز وجل عن الظن ، وعدّه إثماً لا يغني من الحق شيئاً .
ويقابل الطرف الغالي المتعصب طرفٌ آخر تكاسلوا عن معرفة أنسابهم القريبة فضلاً عن أصولهم البعيدة ، ومفاخر قومهم وأيامهم ولغتهم ومواطنهم ، وحينما أذكر المفاخر والأيام فإنني لا أعني به الفخر الأعمى بالأحساب بل حفظ تراث قومهم من الضياع ، وتسديد انجازات اباءهم ، السير على خطى الصاحين والعظماء منهم ، ولكن للأسف ضعفت همة البعض عن إدراك هذه المعاني السامية ، ولله درّ القائل : لو لم يكن في معرفة الأنساب إلا اعتزازه بقبيلته من صولة الأعداء ، وتنازع الأكفاء ، لكان تعلمها من حسن الرأي و أفضل الثواب ، ألا ترى إلى قوم شعيب عليه السلام حين قالوا : (( ولولا رهطك لرجمناك )) فأبقوا عليه لرهطه . ا.هـ ، فليت شعري من يدرك أهمية هذه المعاني ، ويدرك أهمية ما غفل عنه .
وأما الطرف النادر وهم القلة ، وكذا المعدن الثمين يندر في كل زمان ، قومٌ سلموا من التعصب المذموم ، وسلموا من الجهل في إدراك أمور أنسابهم ، فلهم مني ومن كل غيور لهذا العلم أعطر سلامٍ وتحية ، وإني لأرجو أن يكون هذا المنتدى قبلة لهذه النخبة ، ومنارة لهذا المنهج المعتدل الوسط ؛ كي يرقى المجتمع بفكره ، وتتسع آفاق أفراده بفكرٍ مستنير متجدد لايضره من شذّ عنه ، ولامن خالفه فقد اقتضت سنة الله أن الناس لاتتفق مذاهبهم ولا أمورهم .
أخيرا : ارجو ألا أكون ارتقيت مرتقىً صعباً لست له بأهل ، ولكن شفيعي في ذلك التأسي بنبي الله شعيب في قوله لقومه : (( إن أُريد إلا الإصلاح ما استطعت )) ، فما كان من صواب فلله الحمد ولي كل نعمة ، وله الحمد والمنة ، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان ، والعذر موصول لكل من قرأ هذه السطور .
ودمتم لي بود
آخر تعديل صاحب الامتياز يوم 07-05-2007 في 01:34 AM.
|