رد: التفكير المستقيم والتفكير الأعوج
======== الفصل الثالث ( الإحتيالات والغش في الجدال ) ========
سبق لنا أن لاحظنا أن قولا بالصيغة: « كل الناس بخلاء » يند ر جدا أن يكون صادقا ويسهل كثيرا نقضه بالبرهان. وسهولة نقضه بالبرهان راجعة إلى سبب واضح وهو أن شاهدا بمفرده على أن أحد الناس غير بخيل يكفي لإبطال هذا القول.ولو فرضنا على سبيل المثال أن رجلا أدعى بان كل مسالم جبان فان خصمه في النزاع يستطيع أن ينقض هذا الادعاء وذلك بان يشير إلى مسالم واحد أبدى شجاعة فائقة في وجه الموت. ولكن لو فرضنا من جهة ثانية أن الرجل اعتدل في ادعائه وقال أن بعض المسالمين جبناء فإنه عندئذ لا يغلب ولا يحج لأنه يستطيع حينئذ أن يأتي بشاهد أو أكثر على المسالمين كانوا جبناء وبذلك يثبت دعواه.وفي هذا إشارة إلى أن الشخص الذي يتخذ موقفا متطرفا في ادعائه لمكان يقول « كل الناس بخلاء » يكون في وضع يصعب عليه فيه.. كثيرا الفوز في الجدال. ويلجأ الكثير من الناس قصدا أو عن غير قصد إلى حيلة مبنية على هذا المبدأ وهي حيلة إرغام الخصم على أن يقف موقف المدافع عن ادعاء متطرف دون أن تدعو ضرورة حقيقية إلى هذا الإرغام. وقد تستخدم هذه الحيلة ضد مجادل غافل وذلك بالإلحاح على معارضة موقف معتدل له إلى أن يضطر هو عند احتدام الجدال إلى أن يتهور ويتخذ مواقف متطرفة موقفا بعد آخر. ولنفرض على سبيل المثال أن رجلين تجادلا حول الظروف المعيشية لبلد ما خاضع للحكم الشيوعي. فأحدهما (مجيد) يدعى أن الشعب يعاني المجاعة هناك وأن الصناعة في حالة لا يرجى صلاحها من فقدان النشاط والفعالية وأن الذي يمنع الشعب من القيام بثورة مضادة ناجحة هو الإرهاب.والثاني (نجيب) يدعي باعتدال ير أن الأمور هناك ليست من السوء بقدر ما يصورها (مجيد) وأن العمال من بعض الوجوه أحسن حالا منهم في البلاد غير الشيوعية. ومن الواضح أن (مجيدا) متخذ موقفا أقل سهولة في الدفاع عنه من موقف (نجيب) ونحن نتوقع لذلك أن يكون النصر في جانب (نجيب). وهذا ما ينتظر حدوثه في الغالب إذا بقي (نجيب) على موقفه المعتدل هذا وتمسك بما أدلى به من عروض لان هذه العروض هي كل ما يحتاج إليه لإبطال حجة (مجيد). ومع استمرار الجدل شرع (مجيد) في المجاهرة بأقوال مبالغ فيها عن الأحوال السيئة للعمال في البلاد الشيوعية: ورد عليه (نجيب) بطبيعة الحال بأقوال جامحة كذلك عن الرخاء الذي يتمتع به هؤلاء العمال و تمادى بذلك إلى أن ادعى صورة من الرخاء وحسن الحال لجميع العمال في تلك البلاد لا تكفى الحقائق المتوافرة لديه لدعمها. وهنا اتخذ (مجيد) موقف المهاجم وأدلى بحقائق تكفى لتنفيذ رأي (نجيب) الذي كان قد غالى بقوله حينما وصف الأحوال المعيشية للعمال في البلاد الشيوعية وصفا بالغ المحاباة ودافع عن ذلك بتطرف عن غفلة منه. وكانت النتيجة أن خسر (نجيب) في المجادلة مع أن قضيته كانت رابحة في بادئ الأمر. وما أكثر المجادلات التي يغامر فيها المجادلون وتنتهي بالبوار على هذه الصورة!
والشخص الحذر إذا دخل في جدال لا ينساق على هذه الصورة إلى اتباع طريق الهز يمة. وإنما يظل مصرا على موقفه المعتدل الذي شرع فيه والذي يمكنه الدفاع عنه بسهولة في حين انه فوق ذلك يستطيع دحض أقوال خصمه المتطرفة بالحجة والبينة دون أن يحتاج إلى جر هذا الخصم إلى التفوه بأقوال أكثر تطرفا في الاتجاه المضاد. و يمكن أن تستعمل ضد مثل هذا الشخص حيلة مماثلة بطريقة أشد غشا وأقل إهانة.. . ذلك أن هذا الرجل قد أكد مرارا باعتدال وعن حق أن « بعض الناس بخلاء » ولكن خصمه لا يجادل في هذا وإ نما يجادله كما لو كان قال « كل الناس بخلاء .» فإذا حاول الرجل الإجابة على حجج خصمه فانه إنما يدافع بذلك عن القول « كل الناس بخلاء » ويكون بذلك قد وقع في الفخ.. وإذا تحاشى ذلك بان بقي مصرا على موقفه المعتدل الأصلي: فان خصمه قد يلجا إلى الإتيان ضده بسفسطة سخيفة على مثل الصورة التالية فيقول « ولكن يجب عليك بحسب المنطق أن تقول أن كل الناس بخلاء إذا كنت تظن أن بعض الناس بخلاء »
|